صفحة جزء
ذكر ابتداء الدولة العلوية بإفريقية

هذه دولة اتسعت أكناف مملكتها ، وطالت مدتها ، فإنها ملكت إفريقية هذه السنة ، وانقرضت دولتهم بمصر سنة سبع وستين وخمسمائة ، فنحتاج أن نستقصي ذكرها فنقول :

أول من ولي منهم أبو محمد عبيد الله ، فقيل هو محمد بن عبد الله بن ميمون بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنهم ، ( ومن ينسب هذا النسب يجعله عبد الله بن ميمون القداح الذي ينسب إليه القداحية .

وقيل هو عبيد الله بن أحمد بن إسماعيل الثاني ابن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنهم ) .

وقد اختلف العلماء في صحة نسبه ، فقال هو وأصحابه القائلون بإمامته : إن نسبه صحيح على ما ذكرناه ، ولم يرتابوا فيه .

وذهب كثير من العلويين العالمين بالأنساب إلى موافقتهم أيضا ، ويشهد بصحة هذا القول ما قاله الشريف الرضي :

[ ص: 578 ]

ما مقامي على الهوان وعندي مقول صارم ، وأنف حمي     ألبس الذل في بلاد الأعادي
وبمصر الخليفة العلوي     من أبوه أبي ، ومولاه مولا
ي إذا ضامني البعيد القصي     لف عرقي بعرقه سيدا النا
س جميعا : محمد ، وعلي     إن ذلي بذلك الجو عز
وأوامي بذلك النقع ري



وإنما لم يودعها في بعض ديوانه خوفا ، ولا حجة بما كتبه في المحضر المتضمن القدح في أنسابهم ، فإن الخوف يحمل على أكثر من هذا ، على أنه قد ورد ما يصدق ما ذكرته ، وهو أن القادر بالله لما بلغته هذه الأبيات أحضر القاضي أبا بكر بن الباقلاني ، فأرسله إلى الشريف أبي أحمد الموسوي والد الشريف الرضي ، يقول له : قد عرفت منزلتك منا ، وما لا نزال عليه من الاعتداد بك بصدق الموالاة منك ، وما تقدم لك في الدولة من مواقف محمودة ، ولا يجوز أن تكون أنت على خليفة ترضاه ، ويكون ولدك على ما يضادها ، وقد بلغنا أنه قال شعرا ، وهو كذا وكذا ، فيا ليت شعري على أي مقام ذل أقام ، وهو ناظر في النقابة والحج ، وهما من أشرف الأعمال ، ولو كان بمصر لكان كبعض الرعايا ، وأطال القول ، فحلف أبو أحمد أنه ما علم بذلك .

وأحضر ولده ، وقال له في المعنى فأنكر الشعر ، فقال له : اكتب خطك إلى الخليفة بالاعتذار ، واذكر فيه أن نسب المصري مدخول ، وأنه مدع في نسبه ، فقال : لا أفعل ! فقال أبوه : تكذبني في قولي ؟

[ ص: 579 ] فقال : ما أكذبك ، ولكني أخاف من الديلم ، وأخاف من المصري ومن الدعاة في البلاد ، فقال أبوه : أتخاف ممن هو بعيد عنك ، وتراقبه ، وتسخط من ( هو قريب ) وأنت بمرأى منه ومسمع ، وهو قادر عليك وعلى أهل بيتك ؟

وتردد القول بينهما ، ولم يكتب الرضي خطه ، فحرد عليه أبوه وغضب وحلف أنه لا يقيم معه في بلد ، فآل الأمر إلى أن حلف الرضي ( أنه ) ما قال هذا الشعر واندرجت القصة على هذا .

ففي امتناع الرضي من الاعتذار ، ومن أن يكتب طعنا في نسبهم مع الخوف ، دليل قوي على صحة نسبهم .

وسألت أنا جماعة من أعيان العلويين في نسبه ، فلم يرتابوا في صحته ، وذهب غيرهم إلى أن نسبه مدخول ليس بصحيح ، وعدا طائفة منهم إلى أن جعلوا نسبه يهوديا ، وقد كتب في الأيام القادرية محضر يتضمن القدح في نسبه ونسب أولاده ، وكتب فيه جماعة من العلويين وغيرهم أن نسبه إلى أمير المؤمنين علي غير صحيح .

فممن كتب فيه من العلويين المرتضى ، وأخوه الرضي ، وابن البطحاوي ، وابن الأزرق العلويان ، ومن غيرهم ابن الأكفاني وابن الخرزي ، وأبو العباس الأبيوردي ، وأبو حامد ، والكشفلي ، والقدوري ، والصيمري أبو الفضل النسوي ، وأبو جعفر النسفي ، وأبو عبد الله بن النعمان ، فقيه الشيعة .

[ ص: 580 ] وزعم القائلون بصحة نسبه أن العلماء ممن كتب في المحضر إنما كتبوا خوفا وتقية ، ومن لا علم عنده بالأنساب فلا احتجاج بقوله .

وزعم الأمير عبد العزيز ، صاحب تاريخ إفريقية والمغرب ، أن نسبه معرق في اليهودية ، ونقل فيه عن جماعة من العلماء ، وقد استقصى ، ذكر ابتداء دولتهم ، وبالغ .

وأنا أذكر معنى ما قاله مع البراءة من عهدة طعنه في نسبه ، وما عداه فقد أحسن فيما ذكر ، قال :

لما بعث الله تعالى سيد الأولين والآخرين محمدا صلى الله عليه وسلم عظم ذلك على اليهود والنصارى والروم والفرس وقريش ، وسائر العرب ، لأنه سفه أحلامهم ، ( وعاب ) أديانهم وآلهتهم ، وفرق جمعهم ، فاجتمعوا يدا واحدة عليه ، فكفاه الله كيدهم ، ونصره عليهم ، فأسلم منهم من هداه الله تعالى ، فلما قبض صلى الله عليه وسلم نجم النفاق ، وارتدت العرب ، وظنوا أن الصحابة يضعفون بعده ، فجاهد أبو بكر ، رضي الله عنه ، في سبيل الله ، فقتل مسيلمة ، ورد الردة ، وأذل الكفر ، ووطأ جزيرة العرب ، وغزا فارس والروم ، فلما حضرته الوفاة ظنوا أن بوفاته ينتقص الإسلام .

فاستخلف عمر بن الخطاب ، فأذل فارس والروم ، وغلب على ممالكها ، فدس عليه المنافقون أبا لؤلؤة فقتله ، ظنا منهم أن بقتله ينطفئ نور الإسلام .

فولي بعده عثمان ، فزاد في الفتوح ، واتسعت مملكة الإسلام ، فلما قتل وولي بعده أمير المؤمنين علي قام بالأمر أحسن قيام .

فلما يئس أعداء الإسلام من استئصاله بالقوة أخذوا في وضع الأحاديث الكاذبة ، وتشكيك ضعفة العقول في دينهم ، بأمور قد ضبطها المحدثون ، وأفسدوا الصحيح

[ ص: 581 ] بالتأويل والطعن عليه .

فكان أول من فعل ذلك أبو الخطاب محمد بن أبي زينب مولى بني أسد وأبو شاكر ميمون بن ديصان صاحب كتاب " الميزان " في نصرة الزندقة ، وغيرهما ، فألقوا إلى من وثقوا به أن لكل شيء من العبادات باطنا وأن الله تعالى لم يوجب على أوليائه ، ومن عرف الأئمة والأبواب ، صلاة ولا زكاة ، ولا غير ذلك ، ولا حرم عليهم شيئا ، وأباحوا لهم نكاح الأمهات والأخوات ، وإنما هذه قيود للعامة ساقطة عن الخاصة .

وكانوا يظهرون التشيع لآل النبي صلى الله عليه وسلم ليستروا أمرهم ، ويستميلوا العامة ، وتفرق أصحابهم في البلاد ، وأظهروا الزهد والعبادة ، يغرون الناس بذلك وهم على خلافه ، فقتل أبو الخطاب وجماعة من أصحابه بالكوفة ، وكان أصحابه قالوا له : إنا نخاف الجند ، فقال لهم : إن أسلحتهم لا تعمل فيكم ، فلما ابتدؤوا في ضرب أعناقهم قال له أصحابه ألم تقل إن سيوفهم لا تعمل فينا ؟ فقال : إذا كان قد أراد الله فما حيلتي ؟ وتفرقت هذه الطائفة في البلاد وتعلموا الشعبذة ، والنارنجيات ، والزرق والنجوم ، والكمياء ، فهم يحتالون على كل قوم بما يتفق عليهم وعلى العامة بإظهار الزهد .

ونشأ لابن ديصان ابن يقال له عبد الله القداح ، علمه الحيل ، وأطلعه على أسرار هذه النحلة ، فحذق وتقدم .

[ ص: 582 ] وكان بنواحي كرخ وأصبهان رجل يعرف بمحمد بن الحسين ويلقب بدندان يتولى تلك المواضع ، وله نيابة عظيمة ، وكان يبغض العرب ويجمع مساويهم ، فسار إليه القداح ، وعرفه من ذلك ما زاد به محله ، وأشار عليه أن لا يظهر ، ( ما في نفسه ) ، وإنما يكتمه ، ويظهر التشيع والطعن على الصحابة ، فإن الطعن فيهم طعن في الشريعة ، فإن بطريقهم وصلت إلى من بعدهم ، فاستحسن قوله وأعطاه مالا عظيما ينفقه على الدعاة إلى هذا المذهب فسيره إلى كور الأهواز والبصرة ، والكوفة ، وطالقان ، وخراسان ، وسلمية ، من أرض حمص ، وفرقه في دعاته ، وتوفي القداح ، ودندان .

وإنما لقب القداح لأنه كان يعالج العيون ويقدحها .

فلما توفي القداح قام بعده ابنه أحمد مقامه ، وصحبه إنسان يقال له رستم بن الحسين بن حوشب بن داذان النجار ، من أهل الكوفة ، فكانا يقصدان المشاهد ، وكان باليمن رجل اسمه محمد بن الفضل كثير المال والعشيرة من أهل الجند ، يتشيع ، فجاء إلى مشهد الحسين بن علي يزوره ، فرآه أحمد ورستم يبكي كثيرا ، فلما خرج اجتمع به أحمد ، وطمع فيه لما رأى من بكائه ، وألقى إليه مذهبه فقبله ، وسير معه النجار إلى اليمن ، وأمره بلزوم العبادة والزهد ودعوة الناس إلى المهدي وأنه خارج في هذا الزمان باليمن ، فسار النجار إلى اليمن ، ونزل بعدن ، بقرب قوم من الشيعة يعرفون ببني موسى ، وأخذ في بيع ما معه .

وأتاه بنو موسى ، وقالوا له : فيم جئت ؟ قال : للتجارة .

[ ص: 583 ] قالوا : لست بتاجر ، وإنما أنت رسول المهدي ، وقد بلغنا خبرك ، ونحن بنو موسى ، ولعلك قد سمعت بنا ، فانبسط ولا تحتشم ، فإنا إخوانك ، فأظهر أمره ، وقوى عزائمهم ، وقرب أمر المهدي بالاستكثار من الخيل والسلاح ، وأخبرهم أن هذا أوان ظهور المهدي ، ومن عندهم يظهر .

واتصلت أخباره بالشيعة الذين بالعراق ، فساروا إليه فكثر جمعهم وعظم بأسهم ، وأغاروا على من جاورهم ، وسبوا ، وجبوا الأموال ، وأرسل إلى من بالكوفة من ولد عبد الله القداح هدايا عظيمة ، وكانوا أنفذوا إلى المغرب رجلين أحدهما يعرف بالحلواني ، والآخر يعرف بأبي سفيان ، وقالوا لهما : إن المغرب أرض بور ، فاذهبا فاحرثا حتى يجيء صاحب البدر ، فسارا فنزل بأرض كتامة ببلد ( يسمى مرمجنة ) والآخر بسوق حمار ، فمالت قلوب أهل تلك النواحي إليهما ، وحملوا إليهما الأموال والتحف ، فأقاما سنين كثيرة ، وماتا ، وكان أحدهما قريب الوفاة من الآخر .

التالي السابق


الخدمات العلمية