صفحة جزء
ذكر حصار أبي يزيد المهدية

لما سمع أبو يزيد بتأهب صنهاجة وكتامة وغيرهم لنصرة القائد ، خاف ورحل من ساعته نحو المهدية ، فنزل على خمسة عشر ميلا منها ، وبث سراياه إلى ناحية المهدية ، فانتهبت ما وجدت ، وقتلت من أصابت ، فاجتمع الناس إلى المهدية ، واتفقت كتامة وأصحاب القائم على أن يخرجوا إلى أبي يزيد ليضربوا عليه في معسكره ؛ لما سمعوا أن عسكره قد تفرق في الغارة ، فخرجوا يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الأولى من السنة .

وبلغ ذلك أبا يزيد ، وقد أتاه فضل بعسكر من القيروان ، فوجههم إلى قتال كتامة ، وقدم عليهم ابنه ، فالتقوا على ستة أميال من المهدية واقتتلوا ، وبلغ الخبر أبا يزيد ، فركب بجميع من بقي معه ، فلقي أصحابه منهزمين ، وقد قتل كثير منهم ، فلما رآه الكتاميون انهزموا من غير قتال ، وأبو يزيد في أثرهم إلى باب الفتح ، واقتحم قوم من البربر فدخلوا باب الفتح ، فأشرف أبو يزيد على المهدية ، ثم رجع إلى منزله ، ثم تقدم إلى المهدية في جمادى الآخرة ، فأتى باب الفتح ، ووجه زويلة إلى باب بكر ، ثم وقف هو على الخندق المحدث ، وبه جماعة من العبيد ، فناشبهم أبو يزيد القتال على الخندق ، ثم اقتحم أبو يزيد ومن معه البحر ، فبلغ الماء صدور الدواب ، حتى جاوزوا السور المحدث ، فانهزم العبيد ، وأبو يزيد في طلبهم .

ووصل أبو يزيد إلى باب المهدية ، عند المصلى الذي للعيد ، وبينه وبين المهدية رمية سهم ، وتفرق أصحابه في زويلة ينهبون ويقتلون ، وأهلها يطلبون الأمان ، والقتال عند باب الفتح بين كتامة والبربر وهم لا يعلمون ما صنع أبو يزيد في ذلك [ ص: 140 ] الجانب ، فحمل الكتاميون على البربر ، فهزموهم وقتلوا فيهم ، وسمع أبو يزيد بذلك ، ووصول زيري بن مناد ( في صنهاجة ) ، فخاف المقام ، فقصد باب الفتح ليأتي زيري وكتامة من ورائهم بطبوله وبنوده ، فلما رأى أهل الأرباض ذلك ، ظنوا أن القائم قد خرج بنفسه من المهدية ، فكبروا وقويت نفوسهم ، واشتد قتالهم ، فتحير أبو يزيد ، وعرفه أهل تلك الناحية ، فمالوا عليه ليقتلوه ، فاشتد القتال عنده ، فهدم بعض أصحابه حائطا وخرج منه فتخلص ، ووصل إلى منزله بعد المغرب ، وهم يقاتلون العبيد ، فلما رأوه قويت قلوبهم ، وانهزم العبيد وافترقوا .

ثم رحل أبو يزيد إلى ثرنوطة ، وحفر على عسكره خندقا ، واجتمع إليه خلق عظيم من إفريقية ، والبربر ، ونفوسة ، والزاب ، وأقاصي المغرب ، فحصر المهدية حصارا شديدا ، ومنع الناس من الدخول إليها والخروج منها ، ثم زحف إليها لسبع بقين من جمادى الآخرة من السنة ، فجرى قتال عظيم قتل [ فيه ] جماعة من وجوه عسكر القائم ، واقتحم أبو يزيد بنفسه حتى وصل إلى قرب الباب ، فعرفه بعض العبيد ، فقبض على لجامه وصاح : هذا أبو يزيد فاقتلوه ، فأتاه رجل من أصحاب أبي يزيد فقطع يده ، وخلص أبو يزيد .

فلما رأى شدة قتال أصحاب القائم ، كتب إلى عامل القيروان يأمره بإرسال مقاتلة أهلها إليه ، ففعل ذلك ، فوصلوا إليه ، فزحف بهم آخر رجب ، فجرى قتال شديد انهزم فيه أبو يزيد هزيمة منكرة ، وقتل فيه جماعة من أصحابه وأكثر أهل القيروان ، ثم زحف الزحفة الرابعة في العشر الآخر من شوال ، فجرى قتال عظيم ، وانصرف ( إلى منزله ، وكثر خروج ) الناس من الجوع والغلاء ، ففتح عند ذلك القائم الأهراء التي عملها المهدي وملأها طعاما ، وفرق ما فيها على رجاله ، وعظم البلاء على الرعية حتى أكلوا الدواب والميتة ، وخرج من المهدية أكثر السوقة والتجار ، ولم يبق بها سوى الجند ، فكان البربر يأخذون من خرج ويقتلونهم ويشقون بطونهم طلبا للذهب .

[ ص: 141 ] ( ثم وصلت كتامة ) فنزلت بقسنطينة ، فخاف أبو يزيد ، فسار رجل من عسكره في جمع عظيم من ورفجومة وغيرهم ( إلى كتامة ) ، فقاتلهم فهزمهم ، فتفرقوا ، وكان البربر يأتون إلى أبي يزيد من كل ناحية ، وينهبون ، ويقتلون ، ويرجعون إلى منازلهم ، حتى أفنوا ما كان في إفريقية : ( فلما لم يبق ما ينهب ، توقفوا عن المجيء إليه ) فلم يبق معه سوى أهل أوراس وبني كملان .

( فلما علم القائم ) تفرق عساكره ، أخرج عسكره إليه ، وكان بينهم قتال شديد لست خلون من ذي القعدة من سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة ، ثم صبحوهم من الغد ، فلم يخرج إليهم أحد ، وكان أبو يزيد قد بعث في طلب الرجال من أوراس ، ثم زحفت عساكر القائم إليه ، فخرج من خندقه ، واقتتلوا ، واشتد بينهم القتال ، فقتل من أصحاب أبي يزيد جماعة منهم رجل من وجوه أصحابه ، فعظم قتله عليه ، ودخل خندقه ثم عاود القتال ، فهبت ريح شديدة مظلمة ، فكان الرجل لا يبصر صاحبه ، فانهزم ( عسكر القائم ) ( وقتل منهم ) جماعة وعاد الحصار على ما كان عليه ، وهرب ( كثير من أهل المهدية ) إلى جزيرة صقلية ، وطرابلس ، ومصر ، وبلد الروم .

وفي آخر ذي القعدة اجتمع عند أبي يزيد جموع عظيمة ، وتقدم إلى المهدية فقاتل عليها ، فتخير الكتاميون منهم مائتي فارس ، فحملوا حملة رجل واحد ، فقتلوا في أصحابه كثيرا ، وأسروا مثلهم ، وكادوا يصلون إليه ، فقاتل أصحابه دونه وخلصوه ، وفرح أهل المهدية ، وأخذوا الأسرى في الحبال إلى المهدية ، ( ودخلت سنة أربع وثلاثين [ ص: 142 ] وثلاثمائة وهو مقيم على المهدية ) .

وفي المحرم منها ظهر بإفريقية رجل يدعو الناس إلى نفسه ، فأجابه خلق كثير وأطاعوه ، وادعى أنه عباسي ورد من بغداذ ومعه أعلام سود ، فظفر به بعض أصحاب أبي يزيد وقبض عليه ، وسيره إلى أبي يزيد فقتله ، ثم إن بعض أصحاب أبي يزيد هرب إلى المهدية ؛ بسبب عداوة كانت بينهم وبين أقوام سعوا بهم إليه ، فخرجوا من المهدية ( مع أصحاب القائم ) فقتلوا أصحاب أبي يزيد ، فظفروا ، فتفرق عند ذلك أصحاب أبي يزيد ، ولم يبق معه غير هوارة وأوراس وبني كملان ، وكان اعتماده عليهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية