صفحة جزء
ذكر عود بختيار إلى ملكه

لما قبض بختيار كان ولده المرزبان بالبصرة متوليا لها ، فلما بلغه قبض والده امتنع فيها على عضد الدولة ، وكتب إلى ركن الدولة يشكو ما جرى على والده وعميه من عضد الدولة ومن أبي الفتح بن العميد ، ويذكر له الحيلة التي تمت عليه ، فلما سمع ركن الدولة ذلك ألقى نفسه ( عن سريره ) إلى الأرض وتمرغ عليها ، وامتنع من الأكل والشرب عدة أيام ، ومرض مرضا لم يستقل منه باقي حياته .

وكان محمد بن بقية ، بعد بختيار ، قد خدم عضد الدولة ، وضمن منه مدينة واسط وأعمالها ، فلما صار إليها خلع طاعة الدولة ، وخالف عليه وأظهر الامتعاض لقبض [ ص: 330 ] بختيار ، وكاتب عمران بن شاهين ، وطلب مساعدته ، وحذره مكر عضد الدولة ، فأجابه عمران إلى ما التمس .

وكان عضد الدولة قد ضمن سهل بن بشر ، وزير الفتكين ، بلد الأهواز ، وأخرجه ( من حبس ) بختيار ، فكاتبه محمد بن بقية واستماله ، فأجابه ، فلما عصى ابن بقية أنفذ إليه عضد الدولة جيشا قويا ، فخرج إليهم ابن بقية في الماء ومعه عسكر قد سيره إليه عمران ، فانهزم أصحاب عضد الدولة أقبح هزيمة ، وكاتب ركن الدولة بحاله حال بختيار ، فكتب ركن الدولة إليه وإلى المرزبان وغيرهما ممن احتمى لبختيار ، يأمرهم بالثبات والصبر ، ويعرفهم أنه على المسير إلى العراق لإخراج عضد الدولة وإعادة بختيار .

فاضطربت النواحي على عضد الدولة ، وتجاسر عليه الأعداء حيث علموا إنكار أبيه عليه ، وانقطعت عنه مواد فارس والبحر ، ولم يبق بيده إلا قصبة بغداذ ، وطمع فيه العامة وأشرف على ما يكره ، فرأى إنفاذ أبي الفتح بن العميد برسالة إلى أبيه يعرفه ما جرى له وما فرق من الأموال ، وضعف بختيار عن حفظ البلاد ، وإن أعيد إلى حاله خرجت المملكة والخلافة عنهم ، وكان بوارهم ، ويسأل ترك نصرة بختيار ، وقال لأبي الفتح : فإن أجاب إلى ما تريد منه ، وإلا فقل له : إنني أضمن منك أعمال العراق ، وأحمل إليك منها كل سنة ثلاثين ألف ألف درهم ، وأبعث بختيار وأخويه إليك لتجعلهم بالخيار ، فإن اختاروا أقاموا عنك ، وإن اختاروا بعض بلاد فارس سلمته إليهم ، ووسعت عليهم ، وإن أجبت أنت أن تحضر في العراق لتلي تدبير الخلافة ، وتنفذ بختيار إلى الري وأعود أنا إلى فارس فالأمر إليك .

وقال لابن العميد : فإن أجاب إلى ما ذكرت له ، وإلا فقل له : أيها السيد الوالد ، أنت مقبول الحكم والقول ، ولكن لا سبيل إلى إطلاق هؤلاء القوم بعد مكاشفتهم ، وإظهار العداوة ، وسيقاتلونني بغاية ما يقدرون عليه ، فتنتشر الكلمة ، ويختلف أهل البيت أبدا ، فإن قبلت ما ذكرته فأنا العبد الطائع ، وإن أبيت ، وحكمت بانصرافي ، فإني سأقتل بختيار وأخويه ، وأقبض على كل من أتهمه بالميل إليهم وأخرج عن العراق ، وأترك البلاد سائبة ليدبرها من اتفقت له .

فخاف ابن العميد أن يسير بهذه الرسالة ، وأشار أن يسير بها غيره ، ويسير هو بعد ذلك ، ويكون كالمشير على ركن الدولة بإجابته إلى ما طلب ، فأرسل عضد الدولة رسولا بهذه الرسالة ، وسير بعده ابن العميد على الجمازات ، فلما حضر الرسول عند ركن [ ص: 331 ] الدولة ، وذكر بعض الرسالة ، وثب إليه ليقتله ، فهرب من بين يديه ، ثم رده بعد أن سكن غضبه ، وقال : قل لفلان ، يعني عضد الدولة ، وسماه بغير اسمه ، وشتمه ، خرجت إلى نصرة ابن أخي وللطمع في مملكته ، أما عرفت أني نصرت الحسن بن الفيرزان ، وهو غريب مني ، مرارا كثيرة أخاطر فيها بملكي ونفسي ، فإذا أعدت له بلاده ، ولم أقبل منه ما قيمته درهم واحد . ثم انصرف إبراهيم بن المرزبان ، وأعدته إلى أذربيجان ، وأنفذت وزيري وعساكري في نصرته ، ولم آخذ منه درهما واحدا ، كل ذلك طلبا لحسن الذكر ، ومحافظة على الفتوة ، تريد أن تمن أنت علي بدرهمين أنفقتهما أنت علي وعلى أولاد أخي ، ثم تطمع في ممالكهم وتهددني بقتلهم ! .

فعاد الرسول ووصل ابن العميد ، فحجبه عنه ، ولم يسمع حديثه ، وتهدده بالهلاك ، وأنفذ إليه يقول له : لأتركنك وذلك الفاعل ، يعني عضد الدولة ، تجتهدان جهدكما ، ثم لا أخرج إليكما إلا في ثلاثمائة جمازة وعليها الرجل ، ثم اثبتوا إن شئتم ، فوالله لا قاتلتكما إلا بأقرب الناس إليكما .

وكان ركن الدولة يقول : إنني أرى أخي معز الدولة كل ليلة في المنام يعض على أنامله ويقول : يا أخي هكذا ضمنت لي أن تخلفني في ولدي . وكان ركن الدولة يحب أخاه محبة شديدة لأنه رباه ، فكان عنده بمنزلة الولد .

ثم إن الناس سعوا لابن العميد ، وتوسطوا الحال بينه وبين ركن الدولة ، وقالوا : إنما تحمل ابن العميد هذه الرسالة ليجعلها طريقا للخلاص من عضد الدولة ، والوصول إليك لتأمر بما تراه . فأذن له في الحضور عنده ، فاجتمع به ، وضمن له إعادة عضد الدولة إلى فارس ، وتقرير بختيار بالعراق ، فرده إلى عضد الدولة ، وعرفه جلية الحال .

فلما رأى عضد الدولة انحراف الأمور عليه من كل ناحية إلى المسير إلى فارس وإعادة بختيار ، فأخرجه من محبسه ، وخلع عليه ، وشرط عليه أن يكون نائبا عنه بالعراق ، ويخطب له ، ويجعل أخاه أبا إسحاق أمير الجيش لضعف بختيار ، ورد عليهم جميع ما كان لهم ، وسار إلى فارس في شوال في هذه السنة ، وأمر أبا الفتح بن العميد ، وزير أبيه ، أن يلحقه بعد ثلاثة أيام .

فلما سار عضد الدولة أقام ابن العميد عند بختيار متشاغلا بالذات ، وبما هو بختيار مغرى به من اللعب ، واتفقا باطنا على أنه إذا مات ركن الدولة سار إليه ووزر له ، واتصل ذلك بعضد الدولة ، فكان سبب هلاك ابن العميد ، على ما نذكره .

[ ص: 332 ] واستقر بختيار ببغداذ ، ولم يقف لعضد الدولة على العهود . فلما ثبت أمر بختيار أنفذ ابن بقية من خلفه له ، وحضر عنده ، وأكد الوحشة بين بختيار وعضد الدولة ، ( وثارت الفتنة بعد مسير عضد الدولة ) ، واستمال ابن بقية الأجناد ، وجبى كثيرا من الأموال إلى خزانته ، وكان إذا طالبه بختيار بالمال وضع الجند على مطالبته ، فثقل على بختيار فاستشار في مكروه يوقعه به ، فبلغ ذلك ابن بقية ، فعاتب بختيار عليه ، فأنكره وحلف له فاحترز ابن بقية منه .

التالي السابق


الخدمات العلمية