صفحة جزء
ذكر ولاية الفتكين دمشق وماكان منه إلى أن مات

قد ذكرنا ما كان من انهزام الفتكين التركي ، مولى معز الدولة بن بويه ، من مولاه بختيار بن معز الدولة ، ومن عضد الدولة في فتنة الأتراك بالعراق ، فلما انهزم منهم سار في طائفة صالحة من الجند الترك ، فوصل إلى حمص ، فنزل بالقرب منها ، فقصده ظالم بن موهوب العقيلي الذي كان أمير دمشق للمعز لدين الله ليأخذه ، فلم يتمكن من أخذه ، فعاد عنه وسار الفتكين إلى دمشق فنزل بظاهرها .

وكان أميرها حينئذ ريان الخادم للمعز ، وكان الأحداث قد غلبوا عليها ، وليس للأعيان معهم حكم ، ولا للسلطنة عليهم طاعة ، فلما نزل خرج أشرافها وشيوخها إليه ، وأظهروا له السرور بقدومه ، وسألوه أن يقيم عندهم ، ويملك بلدهم ، ويزيل عنهم سمة المصريين ، فإنهم يكرهونها بمخالفة الاعتقاد ، ولظلم عمالهم ، ويكف عنهم شر الأحداث ، فأجابهم إلى ذلك ، واستخلفهم على الطاعة والمساعدة ، وحلف لهم على الحماية وكف الأذى عنهم منه ومن غيره ، ودخل البلد ، وأخرج عنه ريان الخادم ، وقطع خطبة المعز ، وخطب للطائع لله في شعبان ، وقمع أهل العيث والفساد ، وهابه الناس كافة ، وأصلح كثيرا من أمورهم .

فكانت العرب قد استولت على سواد البلد وما يتصل به ، فقصدهم ، وأوقع بهم ، [ ص: 334 ] وقتل كثيرا منهم ، وأبان عن شجاعة ، وقوة نفس ، وحسن تدبير ، فأذعنوا له وأقطع البلاد ، وكثر جمعه ، وتوفرت أمواله ، وثبت قدمه .

وكاتب المعز بمصر يداريه ، ويظهر له الانقياد ، فشكره ، وطلب منه أن يحضره عنده ليخلع عليه ، ويعيده واليا من جانبه ، فلم يثق به ، وامتنع ( من المسير ) فتجهز المعز وجمع العساكر لقصده ، فمرض ومات ، على ما نذكره سنة خمس وستين وثلاثمائة ، وولي بعده ابنه العزيز بالله ، فأمن الفتكين بموته جهة مصر ، فقصد بلاد العزيز التي بساحل الشام ، فعمد إلى صيدا فحصرها وبها ابن الشيخ ، ومعه رءوس المغاربة ، ومعهم ظالم بن موهوب العقيلي ، فقاتلهم وكانوا في كثرة ، فطمعوا فيه وخرجوا إليه ، فاستجرهم حتى أبعدوا ، ثم عاد عليهم فقتل منهم نحو أربعة آلاف قتيل .

وطمع في أخذ عكا ، فتوجه إليها ، وقصد طبرية ، فيها من القتل والنهب مثل صيدا ، وعاد إلى دمشق .

فلما سمع العزيز بذلك استشار وزيره يعقوب بن كلس فيما يفعل ، فأشار بإرسال جوهر في العساكر إلى الشام ، فجهزه وسيره . فلما سمع الفتكين بمسيره جمع أهل دمشق وقال : قد علمتم أنني ما وليت أمركم إلا عن رضى منكم ، وطلب من كبيركم وصغيركم لي ، وإنما كنت مجتازا وقد أظلكم هذا الأمر ، وأنا سائر عنكم لئلا ينالكم أذى بسببي . فقالوا : لا نمكنك من فراقنا ، ونحن نبذل الأنفس والأموال في هواك ، وننصرك ، ونقوم معك ، فاستحلفهم على ذلك ، فحلفوا له ، فأقام عندهم . فوصلجوهر إلى البلد في ذي القعدة من سنة خمس وستين وثلاثمائة ، فحصره ، فرأى من قتال الفتكين ومن معه ما استعظمه ، ودامت الحرب شهرين ، قتل فيها عدد كثير من الطائفتين .

فلما رأى أهل دمشق طول مقام المغاربة عليهم أشاروا على الفتكين بمكاتبة الحسن بن أحمد القرمطي ، واستنجاده ، ففعل ذلك ، فسار القرمطي إليه من الأحساء ، فلما قرب منه رحل جوهر عن دمشق ، خوفا أن يبقى بين عدوين ، وكان مقامه عليها سبعة [ ص: 335 ] أشهر ، ووصل القرمطي واجتمع هو والفتكين ، وسارا في أثر جوهر ، فأدركاه وقد نزل بظاهر الرملة ، وسير أثقاله إلى عسقلان ، فاقتتلوا ، فكان جمع الفتكين والقرمطي كثيرا من رجال الشام والعرب وغيرهم ، فكانوا نحو خمسين ألف فارس وراجل ، فنزلوا على نهر الطواحين ، على ثلاثة فراسخ من البلد ، ومنه ماء أهل البلد ، فقطعوه عنهم ، فاحتاج جوهر ومن معه إلى ماء المطر في الصهاريج وهو قليل لا يقوم بهم ، فرحل إلى عسقلان ، وتبعه الفتكين والقرمطي فحصراه بها ، وطال الحصار فقلت الميرة ، وعدمت الأقوات ، وكان الزمان شتاء ، فلم يمكن حمل الذخائر في البحر من مصر وغيرها ، فاضطروا إلى أكل الميتة ، وبلغ الخبز كل خمسة أرطال ، بالشامي ، بدينار مصري .

وكان جوهر يراسل الفتكين ، ويدعوه إلى الموافقة والطاعة ، ويبذل له البذول الكثيرة ، فيهم أن يفعل ، فيمنعه القرمطي ويخوفه منه ، فزادت الشدة على جوهر ومن معه ، فعاينوا الهلاك ، فأرسل إلى الفتكين يطلب منه أن يجتمع به ، فتقدم إليه واجتمعا راكبين . فقال له جوهر : قد عرفت ما يجمعنا من عصمة الإسلام وحرمة الدين ، وقد طالت هذه الفتنة ، وأريقت فيها الدماء ونهبت الأموال ، ونحن المؤاخذون بها عند الله تعالى ، وقد دعوتك إلى الصلح والطاعة والموافقة ، وبذلت لك الرغائب ، فأبيت إلا القبول ممن يشب ( نار الفتنة ) فراقب الله تعالى ، وراجع نفسك ، وغلب رأيك على هوى غيرك .

فقال الفتكين : أنا والله واثق بك ( في صحة ) الرأي والمشورة منك ، لكني غير متمكن مما تدعوني إليه بسبب القرمطي الذي أحوجتني أنت إلى مداراته والقبول منه .

فقال جوهر : إذا كان الأمر على ما ذكرت فإنني أصدقك الحال تعويلا على أمانتك ، وما أجده من الفتوة عندك ، وقد ضاق الأمر بنا ، وأريد أن تمن علي بنفسي وبمن معي من المسلمين ، وتذم لنا ، وأعود إلى صاحبي شاكرا لك وتكون قد جمعت بين حقن الدماء واصطناع المعروف .

فأجابه إلى ذلك ، وحلف له على الوفاء به ، وعاد واجتمع بالقرمطي وعرفه الحال ( فقال : لقد أخطأت ) فإن جوهرا له رأي وحزم ومكيدة ، وسيرجع إلى صاحبه فيحمله [ ص: 336 ] على قصدنا بما لا طاقة لنا به ، والصواب أن ترجع عن ذلك ليموتوا جوعا ، ونأخذهم بالسيف ، فامتنع الفتكين من ذلك وقال : لا أغدر به ، وأذن لجوهر ولمن معه بالسير إلى مصر ، فسار إليه ، واجتمع بالعزيز ، وشرح له الحال وقال : إن كنت تريدهم فاخرج إليهم بنفسك ، وإلا فهم واصلون على أثري ، فبرز العزيز ، وفرق الأموال ، وجمع الرجال ، وسار وجوهر على مقدمته .

وورد الخبر إلى الفتكين والقرمطي فعادا إلى الرملة ، وجمعا العرب وغيرها ، وحشدا ، ووصل العزيز فنزل بظاهر الرملة ، ونزلا بالقرب منه ، ثم اصطفوا للحرب في المحرم سنة سبع وستين وثلاثمائة ، فرأى العزيز من شجاعة الفتكين ما أعجبه ، فأرسل إليه ( في تلك الحال ) يدعوه إلى طاعته ، ويبذل له الرغائب والولايات ، وأن يجعله مقدم عسكره ، والمرجوع إليه في دولته ، ويطلب أن يحضر عنده ويسمع قوله ، فترجل وقبل الأرض بين الصفين ، وقال للرسول : قل لأمير المؤمنين : لو قدم هذا القول لسارعت وأطعت ، وأما الآن فلا يمكن إلا ما ترى . ( وحمل على المسيرة ) فهزمها ، وقتل كثيرا منها فلما رأى العزيز ذلك حمل من القلب ، وأمر الميمنة ( فحملت ، فانهزم القرمطي والفتكين ومن معهما ، ووضع المغاربة السيف ، فأكثروا القتل ، وقتلوا نحو عشرين ألفا .

ونزل العزيز في خيامه ، وجاءه الناس بالأسرى ، فكل من أتاه بأسير خلع عليه ، وبذل لمن أتاه بالفتكين أسيرا مائة ألف دينار ، ( وكان الفتكين ) قد مضى منهزما فكظه العطش ، فلقيه المفرج بن دغفل الطائي وكان بينهما أنس قديم ، فطلب منه الفتكين ماء ، فسقاه ، وأخذه معه إلى بيته فأنزله وأكرمه ، وسار إلى العزيز بالله فأعلمه بأسر الفتكين ، وطلب منه المال ، فأعطاه ما ضمنه ، وسير معه من تسلم الفتكين منه ، فلما وصل الفتكين إلى العزيز لم يشك أنه يقتله لوقته ، فرأى من إكرام العزيز له والإحسان إليه ما أعجزه ، وأمر له بالخيام فنصبت ، وأعاد إليه جميع ( من كان يخدمه ) ، فلم يفقد من حاله شيئا ، وحمل إليه من التحف والأموال ما لم ير مثله ، وأخذه معه إلى مصر وجعله من أخص خدمه وحجابه .

[ ص: 337 ] وأما الحسن القرمطي فإنه وصل منهزما إلى طبرية ، فأدركه رسول العزيز يدعوه إلى العود إليه ليحسن إليه ، ويفعل أكثر مما فعل مع الفتكين ، فلم يرجع ، فأرسل إليه العزيز عشرين ألف دينار وجعلها كل سنة ، فكان يرسلها إليه ، وعاد إلى الأحساء .

ولما عاد العزيز إلى مصر أنزل الفتكين عنده قصره ، وزاد أمره ، وتحكم ، فتكبر على وزيره يعقوب بن كلس ، وترك الركوب إليه ، فصار بينهما عداوة متأكدة ، فوضع عليه من سقاه سما فمات ، فحزن عليه العزيز واتهم الوزير فحبسه نيفا وأربعين يوما ، وأخذ منه خمسمائة ألف دينار ، ثم وقفت أمور دولة العزيز باعتزال الوزير ، فخلع عليه ، وأعاده إلى وزارته .

التالي السابق


الخدمات العلمية