صفحة جزء
ذكر وفاة القاضي منذر البلوطي

في هذه السنة ، في ذي القعدة ، مات القاضي منذر بن سعيد البلوطي ، أبو الحاكم ، قاضي قضاة الأندلس ، وكان إماما فقيها ، خطيبا ، شاعرا ، فصيحا ، ذا دين متين ، دخل على عبد الرحمن الناصر ، صاحب الأندلس ، بعد أن فرغ من بناء الزهراء وقصورها ، وقد قعد في قبة مزخرفة بالذهب ، والبناء البديع الذي لم يسبق إليه ، ومعه جماعة من الأعيان ، فقال عبد الرحمن الناصر : هل بلغكم أن أحدا بنى مثل هذا البناء ؟ فقال له الجماعة : لم [ ص: 347 ] نر ولم نسمع بمثله ، وأثنوا وبالغوا ، والقاضي مطرق ، فاستنطقه عبد الرحمن ، فبكى القاضي ، وانحدرت دموعه على لحيته ، وقال : والله ما كنت أظن أن الشيطان ، أخزاه الله تعالى ، يبلغ منك هذا المبلغ ، ولا أن تمكنه من قيادك هذا التمكن ، مع ما آتاك الله ، وفضلك به ، حتى أنزلك منازل الكافرين .

فقال له عبد الرحمن : انظر ما تقول ، وكيف أنزلني منزل الكافرين ؟ فقال : قال الله تعالى : ( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون وزخرفا ) إلى قوله : ( والآخرة عند ربك للمتقين ) .

فوجم عبد الرحمن وبكى ، وقال : جزاك الله خيرا ، وأكثر في المسلمين مثلك .

وأخبار هذا القاضي كثيرة حسنة جدا ، منها : أنه قحط الناس وأرادوا الخروج للاستسقاء ، فأرسل إليه عبد الرحمن يأمره بالخروج ، فقال القاضي للرسول : يا ليت شعري ما الذي يصنعه الأمير يومنا هذا ؟ فقال : ما رأيته قط أخشع منه الآن ، قد لبس خشن الثياب ، وافترش التراب ، وجعله على رأسه ولحيته ، وبكى ، واعترف بذنوبه ، ويقول : هذه ناصيتي بيديك ، أتراك تعذب هذا الخلق لأجلي ؟

فقال القاضي يا غلام احمل الممطر معك ، فقد أذن الله بسقيانا ، إذا خشع جبار الأرض رحم جبار السماء ، فخرج واستسقى بالناس ، فلما صعد المنبر ورأى الناس قد شخصوا إليه بأبصارهم قال : ( سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح ) الآية ، وكررها ، فضج الناس بالبكاء والتوبة ، وتمم خطبته فسقي الناس .

التالي السابق


الخدمات العلمية