صفحة جزء
ذكر أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بإظهار دعوته

ثم إن الله تعالى أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد مبعثه بثلاث سنين أن يصدع بما يؤمر ، وكان قبل ذلك في السنين مستترا بدعوته لا يظهرها إلا لمن يثق به ، فكان أصحابه إذا أرادوا الصلاة ذهبوا إلى الشعاب فاستخفوا ، فبينما سعد بن أبي وقاص وعمار وابن مسعود وخباب وسعيد بن زيد يصلون في شعب اطلع عليهم نفر من المشركين ، منهم : أبو سفيان بن حرب ، والأخنس بن شريق ، وغيرهما ، فسبوهم وعابوهم حتى قاتلوهم ، فضرب سعد رجلا من المشركين بلحي جمل فشجه ، فكان أول دم أريق في [ ص: 659 ] الإسلام في قول .

قال ابن عباس : لما نزلت : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصعد على الصفا فهتف : يا صباحاه ! فاجتمعوا إليه فقال : يا بني فلان ، يا بني فلان ، يا بني عبد المطلب ، يا بني عبد مناف ! فاجتمعوا إليه . فقال : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح الجبل أكنتم مصدقي ؟ قالوا : نعم ، ما جربنا عليك كذبا . قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد . فقال أبو لهب : تبا لك ! أما جمعتنا إلا لهذا ؟ ثم قام ، فنزلت : ( تبت يدا أبي لهب ) السورة

وقال جعفر بن عبد الله بن أبي الحكم : لما أنزل الله على رسوله : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) ، اشتد ذلك عليه وضاق به ذرعا ، فجلس في بيته كالمريض ، فأتته عماته يعدنه ، فقال : ما اشتكيت شيئا ولكن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين . فقلن له : فادعهم ولا تدع أبا لهب فيهم فإنه غير مجيبك . فدعاهم - صلى الله عليه وسلم - فحضروا ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف ، فكانوا خمسة وأربعين رجلا ، فبادره أبو لهب وقال : هؤلاء هم عمومتك وبنو عمك ، فتكلم ودع الصباة ، واعلم أنه ليس لقومك في العرب قاطبة طاقة ، وأن أحق من أخذك فحبسك بنو أبيك ، وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش وتمدهم العرب ، فما رأيت أحدا جاء على بني أبيه بشر مما جئتهم به . فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يتكلم في ذلك المجلس .

ثم دعاهم ثانية وقال : " الحمد لله ، أحمده وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له " ، ثم قال : " إن الرائد لا يكذب أهله ، والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة ، والله لتموتن كما تنامون ، ولتبعثن كما تستيقظون ، ولتحاسبن بما تعملون ، وإنها الجنة أبدا والنار أبدا " .

فقال أبو طالب : ما أحب إلينا معاونتك وأقبلنا لنصيحتك وأشد تصديقنا لحديثك ، [ ص: 660 ] وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون ، وإنما أنا أحدهم ، غير أني أسرعهم إلى ما تحب ، فامض لما أمرت به فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك ، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب .

فقال أبو لهب : هذه والله السوأة ! خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم .

فقال أبو طالب : والله لنمنعنه ما بقينا
.

وقال علي بن أبي طالب : لما نزلت : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) دعاني النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين ، فضقت ذرعا وعلمت أني متى أبادرهم بهذا الأمر أر منهم ما أكره ، فصمت عليه حتى جاءني جبرائيل فقال : يا محمد إلا تفعل ما تؤمر به يعذبك ربك . فاصنع لنا صاعا من طعام ، واجعل عليه رجل شاة ، واملأ لنا عسا من لبن ، واجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغهم ما أمرت به . ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم ، وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه ، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب ، فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعته لهم . فلما وضعته تناول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حزة من اللحم فنتفها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة ، ثم قال : خذوا باسم الله ، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء من حاجة ، وما أرى إلا مواضع أيديهم ، وايم الله الذي نفس علي بيده إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمت لجميعهم ! ثم قال : " اسق القوم " ، فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا جميعا ، وايم الله إن كان الرجل الواحد ليشرب مثله ! فلما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال : لهد ما سحركم به صاحبكم . فتفرق القوم ولم يكلمهم - صلى الله عليه وسلم - فقال : " الغد يا علي ، إن هذا الرجل سبقني إلى ما سمعت من القول ، فتفرقوا قبل أن أكلمهم ، فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت ثم اجمعهم إلي " .

ففعل مثل ما فعل بالأمس ، فأكلوا ، وسقيتهم ذلك العس ، فشربوا حتى رووا جميعا وشبعوا ، ثم تكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به ، قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني [ ص: 661 ] الله تعالى أن أدعوكم إليه ، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيتي وخليفتي فيكم ؟ فأحجم القوم عنها جميعا ، وقلت - وإني لأحدثهم سنا ، وأرمصهم عينا ، وأعظمهم بطنا وأحمشهم ساقا : أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه . فأخذ برقبتي ثم قال : إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا . قال فقام القوم يضحكون فيقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع
.

وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصدع بما جاءه من عند الله ، وأن يبادئ الناس بأمره ويدعوهم إلى الله ، فكان يدعو في أول ما نزلت عليه النبوة ثلاث سنين مستخفيا إلى أن أمر بالظهور للدعاء ، ثم صدع بأمر الله وبادأ قومه بالإسلام ، فلم يبعدوا منه ولم يردوا عليه إلا بعض الرد ، حتى ذكر آلهتهم وعابها . فلما فعل ذلك أجمعوا على خلافه إلا من عصمه الله منهم بالإسلام ، وهم قليل مستخفون . وحدب عليه عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه ، ومضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أمر الله مظهرا لأمره لا يرده شيء .

فلما رأت قريش أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يعتبهم من شيء يكرهونه ، وأن أبا طالب قد قام دونه ولم يسلمه لهم ، مشى رجال من أشرافهم إلى أبي طالب : عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو البختري بن هشام ، والأسود بن المطلب ، والوليد بن المغيرة ، وأبو جهل بن هشام ، والعاص بن وائل ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، ومن مشى منهم ، فقالوا : يا أبا طالب ، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا ، وعاب ديننا ، وسفه أحلامنا ، وضلل آباءنا ، فإما أن تكفه عنا ، وإما أن تخلي بيننا وبينه ، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه . فقال لهم أبو طالب قولا جميلا وردهم ردا رفيقا فانصرفوا عنه ، ومضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما هو عليه .

ثم شري الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال فتضاغنوا ، وأكثرت قريش ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتذامروا فيه ، فمشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا : يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ، وإنا قد اشتهيناك أن تنهى ابن أخيك فلم تفعل ، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آلهتنا وآبائنا وتسفيه أحلامنا ، حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين ، أو كما قالوا ، ثم انصرفوا عنه .

فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم له ولم تطب نفسه بإسلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخذلانه ، وبعث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعلمه ما قالت قريش وقال له : أبق على [ ص: 662 ] نفسك وعلي ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق . فظن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قد بدا لعمه بدو ، وأنه خذله وقد ضعف عن نصرته ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " يا عماه لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته " . ثم بكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقام . فلما ولى ناداه أبو طالب ، فأقبل عليه وقال : اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت ، فوالله لا أسلمك لشيء أبدا .

فلما علمت قريش أن أبا طالب لا يخذل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه يجمع لعداوتهم ، مشوا بعمارة بن الوليد فقالوا : يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد فتى قريش وأجملهم ، فخذه فلك عقله ونصرته فاتخذه ولدا ، وأسلم لنا ابن أخيك هذا الذي سفه أحلامنا ، وخالف دينك ودين آبائك ، وفرق جماعة قومك نقتله ، فإنما رجل برجل . فقال : والله لبئس ما تسومونني ، أتعطونني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه ؟ هذا والله لا يكون أبدا ! فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف : والله لقد أنصفك قومك ، وما أراك تريد أن تقبل منهم ! فقال أبو طالب : والله ما أنصفوني ، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي ، فاصنع ما بدا لك .

فاشتد الأمر عند ذلك ، وتنابذ القوم ، واشتدت على من في القبائل من الصحابة الذين أسلموا ، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يعذبونهم ويفتنوهم عن دينهم ، ومنع الله رسوله بعمه أبي طالب ، وقام أبو طالب في بني هاشم فدعاهم إلى منع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجابوا إلى ذلك ، واجتمعوا إليه إلا ما كان من أبي لهب .

فلما رأى أبو طالب من قومه ما سره ، أقبل يمدحهم ويذكر فضل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم . وقد مشت قريش إلى أبي طالب عند موته وقالوا له : أنت كبيرنا وسيدنا ، فأنصفنا من ابن أخيك ، فمره فليكف عن شتم آلهتنا ، وندعه وإلهه . فبعث إليه أبو طالب ، فلما دخل عليه قال له : هؤلاء سروات قومك يسألونك أن تكف عن شتم آلهتهم ، ويدعوك وإلهك . قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أي عم ! أولا أدعوهم إلى ما هو خير لهم منها ، كلمة يقولونها تدين لهم بها العرب ويملكون رقاب العجم ؟ " فقال أبو جهل : ما هي وأبيك لنعطينكها وعشر أمثالها ؟ قال : تقولون لا إله إلا الله ، فنفروا وتفرقوا وقالوا : سل غيرها . فقال : " لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها " . قال : فغضبوا وقاموا من عنده غضابى وقالوا : والله لنشتمنك وإلهك الذي يأمرك بهذا ! ( وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم ) ، [ ص: 663 ] إلى قوله : ( إلا اختلاق ) ، وأقبل على عمه فقال : " قل كلمة أشهد لك بها يوم القيامة " . قال : لولا أن تعيبكم بها العرب وتقول : جزع من الموت لأعطيتكها ، ولكن على ملة الأشياخ ، فنزلت : ( إنك لا تهدي من أحببت ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية