صفحة جزء
ذكر ملك الفرنج حصن أفامية

في هذه السنة ملك الفرنج حصن أفامية من بلد الشام .

وسبب ذلك : أن خلف بن ملاعب الكلابي كان متغلبا على حمص ، وكان الضرر به عظيما ، ورجاله يقطعون الطريق ، فكثر الحرامية عنده ، فأخذها منه تتش بن ألب أرسلان وأبعده عنها ، فتقلبت به الأحوال إلى أن دخل إلى مصر ، فلم يلتفت إليه من بها ، فأقام بها .

واتفق أن المتولي لأفامية من جهة الملك رضوان أرسل إلى صاحب مصر ، وكان يميل إلى مذهبهم ، يستدعي منهم من يسلم إليه الحصن ، وهو من أمنع الحصون ، وطلب ابن ملاعب منهم أن يكون هو المقيم به ، وقال : إنني أرغب في قتال الفرنج ، وأوثر الجهاد .

فسلموه إليه ، وأخذوا رهائنه ، فلما ملكه خلع طاعتهم ولم يرع حقهم [ ص: 524 ] فأرسلوا إليه يتهددونه بما يفعلونه بولده الذي عندهم . فأعاد الجواب : إنني لا أنزل من مكاني ، وابعثوا إلي ببعض أعضاء ولدي حتى آكله ، فأيسوا من رجوعه إلى الطاعة ، وأقام بأفامية يخيف السبيل ، ويقطع الطريق ، واجتمع عنده كثير من المفسدين ، فكثرت أمواله .

ثم إن الفرنج ملكوا سرمين ، وهي من أعمال حلب ، وأهلها غلاة في التشيع ، فلما ملكها الفرنج تفرق أهلها ، فتوجه القاضي الذي بها إلى ابن ملاعب وأقام عنده ، فأكرمه ، وأحبه ، ووثق به ، فأعمل القاضي الحيلة عليه ، وكتب إلى أبي طاهر ، المعروف بالصائغ ، وهو من أعيان أصحاب الملك رضوان ووجوه الباطنية ودعاتهم ، ووافقهم على الفتك بابن ملاعب ، وأن يسلم أفامية إلى الملك رضوان ، فظهر شيء من هذا ، فأتى ابن ملاعب أولاده ، وكانوا قد تسللوا من مصر ، وقالوا له : قد بلغنا عن هذا القاضي كذا وكذا ، والرأي أن تعاجله ، وتحتاط لنفسك ، فإن الأمر قد اشتهر وظهر .

فأحضره ابن ملاعب ، فأتاه في كمه مصحف ، لأنه رأى أمارات الشر ، فقال له ابن ملاعب ما بلغه عنه ، فقال له : أيها الأمير ، قد علم كل أحد أني أتيتك خائفا جائعا ، فأمنتني ، وأغنيتني ، وعززتني ، فصرت ذا مال وجاه ، فإن كان بعض من حسدني على منزلتي منك ، وما غمرني من نعمتك سعى بي إليك ، فأسألك أن تأخذ جميع ما معي ، وأخرج كما جئت .

وحلف له على الوفاء والنصح ، فقبل عذره وأمنه .

وعاود القاضي مكاتبة أبي طاهر بن الصائغ ، وأشار عليه أن يوافق رضوان على إنفاذ ثلاثمائة من أهل سرمين ، وينفذ معهم خيلا من خيول الفرنج ، وسلاحا من أسلحتهم ، ورءوسا من رءوس الفرنج ، يأتوا إلى ابن ملاعب ويظهروا أنهم غزاة ويشكوا من سوء معاملة الملك رضوان وأصحابه لهم ، وأنهم فارقوه ، فلقيهم طائفة [ ص: 525 ] من الفرنج ، فظفروا بهم ، ويحملوا جميع ما معهم إليه ، فإذا أذن لهم في المقام اتفقت آراؤهم على إعمال الحيلة عليه ، ففعل ابن الصائغ ذلك ، ووصل القوم إلى أفامية ، وقدموا إلى ابن ملاعب بما معهم من الخيل وغيرها ، فقبل ذلك منهم ، وأمرهم بالمقام عنده ، وأنزلهم في ربض أفامية .

فلما كان في بعض الليالي نام الحراس بالقلعة ، فقام القاضي ومن بالحصن من أهل سرمين ، ودلوا الحبال وأصعدوا أولئك القادمين جميعهم ، وقصدوا أولاد ابن ملاعب ، وبني عمه ، وأصحابه ، فقتلوهم ، وأتى القاضي وجماعة معه إلى ابن ملاعب ، وهو مع امرأته ، فأحس بهم ، فقال : من أنت ؟ فقال : ملك الموت جئت لقبض روحك ! فناشده الله ، فلم يرجع عنه ، وجرحه ، وقتله ، وقتل أصحابه ، وهرب ابناه ، فقتل أحدهما ، والتحق الآخر بأبي الحسن بن منقذ ، صاحب شيزر ، فحفظه لعهد كان بينهما .

ولما سمع ابن الصائغ خبر أفامية سار إليها ، وهو يشك أنها له ، فقال له القاضي : إن وافقتني ، وأقمت معي ، فبالرحب والسعة ، ونحن بحكمك ، وإلا فارجع من حيث جئت .

فأيس ابن الصائغ منه ، وكان أحد أولاد ابن ملاعب بدمشق عند طغتكين ، غضبان على أبيه ، فولاه طغتكين حصنا ، وضمن على نفسه حفظ الطريق ، فلم يفعل ، وقطع الطريق ، وأخذ القوافل ، فاستغاثوا إلى طغتكين منه ، فأرسل إليه من طلبه ، فهرب إلى الفرنج ، واستدعاهم إلى حصن أفامية ، وقال : ليس فيه غير قوت شهر ، فأقاموا عليه يحاصرونه ، فجاع أهله ، وملكه الفرنج ، وقتلوا القاضي المتغلب عليه ، وأخذوا الصائغ فقتلوه ، وكان هو الذي أظهر مذهب الباطنية بالشام .

هكذا ذكر بعضهم أن أبا طاهر الصائغ قتله الفرنج بأفامية ، وقد قيل إن ابن بديع ، رئيس حلب ، قتله سنة سبع وخمسمائة ، بعد وفاة رضوان ، وقد ذكرناه هناك ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية