صفحة جزء
ذكر وفاة جاولي سقاوو وحال بلاد فارس معه

في هذه السنة توفي جاولي سقاوو ، كان السلطان ببغداذ عازما على المقام بها ، فاضطر إلى المسير إلى أصبهان ليكون قريبا من فارس ، لئلا تختلف عليه وقد ذكرنا حال جاولي بالموصل إلى أن ملكت منه وأخذها السلطان ، فلما قصد السلطان ورضي عنه أقطعه بلاد فارس ، فسار جاولي إليها ، ومعه ولد السلطان جغري ، وهو طفل له من العمر سنتان ، وأمره بإصلاحها ، وقمع المفسدين بها ، فسار إليها ، فأول ما اعتمده فيها [ ص: 613 ] أنه لم يتوسط بلاد الأمير بلدجي ، وهو من كبار مماليك السلطان ملكشاه ، ومن جملة بلاده كليل وسرماه ، وكان متمكنا بتلك البلاد .

وراسله جاولي ليحضر خدمة جغري ، ولد السلطان ، وعلم جغري أن يقول بالفارسية خذوه ، فلما دخل بلدجي قال جغري ، على عادته : خذوه ، فأخذه وقتل ، ونهبت أمواله .

وكان لبلدجي ، من جملة حصونه ، قلعة إصطخر ، وهي من أمنع القلاع وأحصنها ، وكان بها أهله وذخائره ، وقد استناب في حفظها وزيرا له يعرف بالجهرمي ، فعصى عليه ، وأخرج إليه أهله وبعض المال ، ولم تزل في يد الجهرمي حتى وصل جاولي إلى فارس فأخذها منه ، وجعل فيها أمواله .

وكان بفارس جماعة من أمراء الشوانكارة ، وهم خلق كثير لا يحصون ، ومقدمهم الحسن بن المبارز ، المعروف بخسرو ، وله فسا وغيرها ، فراسله جاولي ليحضر خدمة جغري ، فأجاب : إنني عبد السلطان ، وفي طاعته فأما الحضور فلا سبيل إليه ، لأنني قد عرفت عادتك مع بلدجي وغيره ، ولكنني أحمل إلى السلطان ما يؤثره .

فلما سمع جاولي جوابه علم أنه لا مقام له بفارس معه ، فأظهر العود إلى السلطان ، وحمل أثقاله على الدواب ، وسار كأنه يطلب السلطان ، ورجع الرسول إلى خسرو فأخبره ، فاغتر وقعد للشراب ، وأمن .

وأما جاولي فإنه عاد من الطريق إلى خسرو جريدة في نفر يسير ، فوصل إليه وهو مخمور نائم ، فكبسه ، فأنبهه أخوه فضلوه ، فلم يستيقظ ، فصب عليه الماء البارد ، فأفاق ، وركب من وقته وانهزم ، وتفرق أصحابه ، ونهب جاولي ثقله وأمواله ، وأكثر القتل في أصحابه ، ونجا خسرو إلى حصنه ، وهو بين جبلين ، يقال لأحدهما أنج .

وسار جاولي إلى مدينة فسا فتسلمها ، ونهب كثيرا من بلاد فارس منها جهرم ، وسار إلى خسرو وحصره مدة ، وضيق عليه ، فرأى من امتناع حصنه وقوته ، وكثرة ذخائره ما علم معه أن المدة تطول عليه ، فصالحه ليشتغل بباقي بلاد فارس ، ورحل [ ص: 614 ] عنه إلى شيراز ، فأقام بها ، ثم توجه إلى كازرون فملكها ، وحصر أبا سعد محمد بن مما في قلعته ، وأقام عليها سنتين صيفا وشتاء ، فراسله جاولي في الصلح ، فقتل الرسول ، فأرسل إليه قوما من الصوفية ، فأطعمهم الهريسة والقطائف ، ثم أمر بهم فخيطت أدبارهم وألقوا في الشمس فهلكوا ، ثم نفد ما عند أبي سعد ، فطلب الأمان فأمنه ، وتسلم الحصن .

ثم إن جاولي أساء معاملته ، فهرب ، فقبض على أولاده ، وبث الرجال في أثره ، فرأى بعضهم زنجيا يحمل شيئا ، فقال : ما معك ؟ فقال : زادي ففتشه ، فرأى دجاجا ، وحلواء السكر ، فقال : ما هذا من طعامك ! فضربه ، فأقر على أبي سعد ، وأنه يحمل ذلك إليه ، فقصدوه ، وهو في شعب جبل ، فأخذه الجندي وحمله إلى جاولي فقتله .

وسار إلى دارابجرد ، وصاحبها اسمه إبراهيم ، فهرب صاحبها منه إلى كرمان خوفا منه ، وكان بينه وبين صاحب كرمان صهر ، وهو أرسلانشاه بن كرمانشاه بن أرسلان بك بن قاروت ، فقال له : لو تعاضدنا لم يقدر علينا جاولي ، وطلب منه النجدة .

وسار جاولي بعد هربه منه إلى حصار رتيل رننه ، يعني مضيق رننه ، وهو موضع لم يؤخذ قهرا قط ، لأنه واد نحو فرسخين ، وفي صدره قلعة منيعة على جبل عال ، وأهل دارابجرد يتحصنون به إذا خافوا ، فأقاموا به ، وحفظوا أعلاه .

فلما رأى جاولي حصانته سار يطلب البرية نحو كرمان ، كاتما أمره ، ثم رجع من طريق كرمان إلى دارابجرد ، مظهرا أنه من عسكر الملك أرسلانشاه ، صاحب كرمان ، فلم يشك أهل الحصن أنهم مدد لهم مع صاحبهم ، فأظهروا السرور ، وأذنوا له دخول المضيق ، فلما دخله وضع السيف فيمن هناك ، فلم ينج غير القليل ، ونهب أموال أهل دارابجرد وعاد إلى مكانه ، وراسل خسرو يعلمه أنه عازم على التوجه إلى كرمان ، ويدعوه إليه فلم يجد بدا من موافقته ، فنزل إليه طائعا ، وسار معه إلى كرمان ، وأرسل إلى صاحبها القاضي أبا طاهر عبد الله بن طاهر قاضي شيراز ، يأمره بإعادة الشوانكارة لأنهم رعية السلطان ، يقول : إنه متى أعادهم عاد عن قصد بلاده ، وإلا قصده ، فأعاد صاحب كرمان جواب الرسالة يتضمن الشفاعة فيهم ، حيث استجاروا به .

[ ص: 615 ] ولما وصل الرسول إلى جاولي أحسن إليه ، وأجزل له العطاء ، وأفسده على صاحبه ، وجعله عينا له عليه ، وقرر معه إعادة عسكر كرمان ليدخل البلاد وهم غارون ، فلما عاد الرسول وبلغ السيرجان ، وبها عساكر صاحب كرمان ، ووزيره مقدم الجيش ، أعلم الوزير ما عليه جاولي من المقاربة ، وأنه يفارق ما كرهوه ، وأكثر من هذا النوع ، وقال : لكنه مستوحش من اجتماع العساكر بالسيرجان ، وإن أعداء جاولي طمعوا فيه بهذا العسكر ، والرأي أن تعاد العساكر إلى بلادها .

فعاد الوزير والعساكر ، وخلت السيرجان ، سار جاولي في أثر الرسول فنزل بفرج ، وهي الحد بين فارس وكرمان ، فحاصرها ، فلما بلغ ذلك ملك كرمان أحضر الرسول وأنكر عليه إعادة العسكر ، فاعتذر إليه .

وكان مع الرسول فراش لجاولي ليعود إليه بالأخبار ، فارتاب به الوزير فعاقبه ، فأقر على الرسول ، فصلب ، ونهبت أمواله ، وصلب الفراش ، وندب العساكر إلى المسير إلى جاولي ، فساروا في ستة آلاف فارس .

وكانت الولاية هي الحد بين فارس وكرمان بيد إنسان يسمى موسى ، وكان ذا رأي ومكر ، فاجتمع بالعسكر ، وأشار عليهم بترك الجادة المسلوكة ، وقال : إن جاولي محتاط منها ، وسلك بهم طريقا غير مسلوكة ، بين جبال ومضايق .

وكان جاولي يحاصر فرج ، وقد ضيق على من بها ، وهو يدمن الشرب ، فسير أميرا من عسكره ليلقى العسكر المنفذ من كرمان ، فسار الأمير ، فلم ير أحدا ، فظن أنهم قد عادوا ، فرجع إلى جاولي وقال : إن العسكر كان قليلا ، فعاد خوفا منا ، فاطمأن حينئذ جاولي ، وأدمن شرب الخمر .

ووصل عسكر كرمان إليه ليلا ، وهو سكران ، نائم ، فأيقظه بعض أصحابه وأخبره ، فقطع لسانه ، فأتاه غيره وأيقظه وعرفه الحال ، فاستيقظ وركب وانهزم ، وقد تفرق عسكره منهزمين ، فقتل منهم وأسر كثيرا ، وأدركه خسرو وابن أبي سعد الذي قتل جاولي أباه ، فسارا معه في أصحابهما ، فالتفت ، فلم ير معه أحدا من أصحابه الأتراك ، فخاف على نفسه منهم ، فقالا له : إنا لا نغدر بك ، ولن ترى منا إلا الخير والسلامة ، وسارا معه ، حتى وصل إلى مدينة فسا ، واتصل به المنهزمون من أصحابه ، وأطلق صاحب كرمان الأسرى وجهزهم ، وكانت هذه الوقعة في شوال سنة ثمان وخمسمائة .

[ ص: 616 ] وبينما جاولي يدبر الأمر ليعاود كرمان ، ويأخذ بثأره ، توفي الملك جغري بن السلطان محمد ، وعمره خمس سنين ، وكانت وفاته في ذي الحجة سنة تسع وخمسمائة ، ففت ذلك في عضده ، فأرسل ملك كرمان رسولا إلى السلطان ، وهو ببغداذ ، يطلب منه منع جاولي عنه ، فأجابه السلطان أنه لا بد من إرضاء جاولي وتسليم فرج إليه ، فعاد الرسول في ربيع الأول سنة عشر وخمسمائة ، فتوفي جاولي ، فأمنوا ما كانوا يخافونه ، فلما سمع السلطان سار عن بغداذ إلى أصبهان ، خوفا على فارس من صاحب كرمان .

التالي السابق


الخدمات العلمية