صفحة جزء
ذكر وفاة المهدي وولاية عبد المؤمن

لما سير الجيش إلى حصار مراكش مرض مرضا شديدا ، فلما بلغه خبر الهزيمة اشتد مرضه ، وسأل عن عبد المؤمن ، فقيل : هو سالم ، فقال : ما مات أحد ، الأمر قائم ، وهو الذي يفتح البلاد .

ووصى أصحابه باتباعه ، وتقديمه ، وتسليم الأمر إليه ، والانقياد له ، ولقبه أمير المؤمنين .

ثم مات المهدي ، وكان عمره إحدى وخمسين سنة ، وقيل : خمسا وخمسين سنة ، ومدة ولايته عشرين سنة ، وعاد عبد المؤمن إلى تين ملل ، وأقام بها يتألف القلوب ، ويحسن إلى الناس ، وكان جوادا مقداما في الحروب ، ثابتا في الهزاهز ، إلى أن دخلت سنة ثمان وعشرين وخمسمائة ، فتجهز وسار في جيش كثير ، وجعل يمشي مع الجبل إلى أن وصل إلى تادلة ، فمانعه أهلها ، وقاتلوه ، فقهرهم ، وفتحها وسائر البلاد [ ص: 661 ] التي تليها ومشى في الجبال يفتح ما امتنع عليه ، وأطاعته صنهاجة الجبل .

وكان أمير المسلمين قد جعل ولي عهده ابنه سير ، فمات ، فأحضر أمير المسلمين ابنه تاشفين من الأندلس ، وكان أميرا عليها ، فلما حضر عنده جعله ولي عهده سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة ، وجعل معه جيشا ، وصار يمشي في الصحراء قبالة عبد المؤمن في الجبال .

وفي سنة اثنتين وثلاثين كان عبد المؤمن في النواظر ، وهو جبل عال مشرف ، وتاشفين في الوطأة ، وكان يخرج من الطائفتين قوم يترامون ويتطاردون ، ولم يكن بينهما لقاء ، ويسمى عام النواظر .

وفي سنة ثلاث وثلاثين توجه عبد المؤمن ، مع الجبل ، في الشعراء ، حتى انتهى إلى جبل كرناطة ، فنزل في أرض صلبة ، بين شجر ، ونزل تاشفين قبالته ، في الوطأة في أرض لا نبات فيها ، وكان الفصل شاتيا ، فتوالت الأمطار أياما كثيرة لا تقلع ، فصارت الأرض التي فيها تاشفين وأصحابه كثيرة الوحل ، تسوخ فيها قوائم الخيل إلى صدورها ، ويعجز الرجل عن المشي فيها ، وتقطعت الطرق عنهم ، فأوقدوا رماحهم ، وقرابيس سروجهم ، وهلكوا جوعا وبردا وسوء حال .

وكان عبد المؤمن وأصحابه في أرض خشنة صلبة في الجبل ، لا يبالون بشيء ، والميرة متصلة إليهم ، وفي ذلك الوقت سير عبد المؤمن جيشا إلى وجرة من أعمال تلمسان ، ومقدمهم أبو عبد الله محمد بن رقو ، وهو من أيت خمسين ، فبلغ خبرهم إلى محمد بن يحيى بن فانوا ، متولي تلمسان ، فخرج في جيش من الملثمين ، فالتقوا بموضع يعرف بخندق الخمر ، فهزمهم جيش عبد المؤمن ، وقتل محمد بن يحيى وكثير من أصحابه ، وغنموا ما معهم ورجعوا ، فتوجه عبد المؤمن بجميع جيشه إلى غمارة ، فأطاعوه قبيلة بعد قبيلة ، وأقام عندهم مدة .

وما برح يمشي في الجبال ، وتاشفين يحاذيه في الصحاري ، فلم يزل عبد المؤمن كذلك إلى سنة خمس وثلاثين ، فتوفي أمير المسلمين علي بن يوسف بمراكش وملك بعده ابنه تاشفين ، فقوي طمع عبد المؤمن في البلاد ، إلا أنه لم ينزل الصحراء .

وفي سنة ثمان وثلاثين توجه عبد المؤمن إلى تلمسان ، فنازلها ، وضرب خيامه في [ ص: 662 ] جبل بأعلاها ، ونزل تاشفين على الجانب الآخر من البلد ، وكان بينهم مناوشة ، فبقوا كذلك إلى سنة تسع وثلاثين ، فرحل عبد المؤمن عنها إلى جبل تاجرة ، ووجه جيشا مع عمر الهنتاتي إلى مدينة وهران ، فهاجمها بغتة ، وحصل هو وجيشه فيها ، فسمع بذلك عبد المؤمن فسار إليها ، فخرج منها عمر ، ونزل تاشفين بظاهر وهران ، على البحر ، في شهر رمضان سنة تسع وثلاثين ، فجاءت ليلة سبع وعشرين منه ، وهي ليلة يعظمها أهل المغرب ، وبظاهر وهران ربوة مطلة على البحر ، وبأعلاها ثنية يجتمع فيها المتعبدون وهو موضع معظم عندهم ، فسار إليه تاشفين في نفر يسير من أصحابه متخفيا لم يعلم به إلا النفر الذين معه ، وقصد التبرك بحضور ذلك الموضع مع أولئك الجماعة الصالحين ، فبلغ الخبر إلى عمر بن يحيى الهنتاتي ، فسار لوقته بجميع عسكره إلى ذلك المتعبد ، وأحاطوا به ، وملكوا الربوة ، فلما خاف تاشفين على نفسه أن يأخذوه ركب فرسه وحمل عليه إلى جهة البحر ، فسقط من جرف عال على الحجارة فهلك ، ورفعت جثته على خشبة ، وقتل كل من كان معه .

وقيل إن تاشفين قصد حصنا هناك على رابية ، وله فيه بستان كبير فيه من كل الثمار ، فاتفق أن عمر الهنتاتي ، مقدم عسكر عبد المؤمن ، سير سرية إلى الحصن ، يعلمهم بضعف من فيه ، ولم يعلموا أن تاشفين فيه ، فألقوا النار في بابه فاحترق ، فأراد تاشفين الهرب ، فركب فرسه ، فوثب الفرس من داخل الحصن إلى خارج السور ، فسقط في النار ، فأخذ تاشفين ، فاعترف ، فأرادوا حمله إلى عبد المؤمن ، فمات في الحال لأن رقبته كانت قد اندقت ، فصلب ، وقتل كل من معه ، وتفرق عسكره ولم يعد لهم جماعة . وملك بعده أخوه إسحاق بن علي بن يوسف .

ولما قتل تاشفين أرسل عمر إلى عبد المؤمن بالخبر ، فجاء من تاجرة في يومه بجميع عسكره ، وتفرق عسكر أمير المسلمين ، واحتمى بعضهم بمدينة وهران ، فلما وصل عبد المؤمن دخلها بالسيف ، وقتل فيها ما لا يحصى .

ثم سار إلى تلمسان ، وهما مدينتان بينهما شوط فرس ، إحداهما تاهرت ، وبها عسكر المسلمين ، والأخرى أقادير ، وهي بناء قديم ، فامتنعت أقادير ، وغلقت أبوابها ، وتأهب أهلها للقتال .

وأما تاهرت ، فكان فيها يحيى بن الصحراوية ، فهرب منها بعسكره إلى مدينة [ ص: 663 ] فاس ، وجاء عبد المؤمن إليها ، فدخلها لما فر منها العسكر ، ولقيه أهلها بالخضوع والاستكانة ، فلم يقبل منهم ذلك وقتل أكثرهم ، ودخلها عسكره ، ورتب أمرها ، ورحل عنها ، وجعل على أقادير جيشا يحصرها ، وسار إلى مدينة فاس سنة أربعين وخمسمائة فنزل على جبل مطل عليها ، وحصرها تسعة أشهر ، وفيها يحيى بن الصحراوية ، وعسكره الذين فروا من تلمسان ، فلما طال مقام عبد المؤمن عمد إلى نهر يدخل البلد فسكره بالأخشاب والتراب وغير ذلك ، فمنعه من دخول البلد ، وصار بحيرة تسير فيها السفن ، ثم هدم السكر ، فجاء الماء دفعة واحدة فخرب سور البلد ، وكل ما يجاور النهر من البلد ، وأراد عبد المؤمن أن يدخل البلد فقاتله أهله خارج السور ، فتعذر عليه ما قدره من دخوله .

وكان بفاس عبد الله بن خيار الجياني عاملا عليها ، وعلى جميع أعمالها ، فاتفق هو وجماعة من أعيان البلد ، وكاتبوا عبد المؤمن في طلب الأمان لأهل فاس ، فأجابهم إليه ، ففتحوا له بابا من أبوابها ، فدخلها عسكره ، وهرب يحيى بن الصحراوية ، وكان فتحها آخر سنة أربعين وخمسمائة ، وسار إلى طنجة ورتب عبد المؤمن أمر مدينة فاس ، وأمر فنودي في أهلها : من ترك عنده سلاحا وعدة قتال حل دمه ، فحمل كل من في البلد ما عندهم من السلاح إليه ، فأخذه منهم .

ثم رجع إلى مكناسة ، ففعل بأهلها مثل ذلك ، وقتل من بها من الفرسان والأجناد .

وأما العسكر الذي كان على تلمسان فإنهم قاتلوا أهلها ، ونصبوا المجانيق ، وأبراج الخشب ، وزحفوا بالدبابات ، وكان المقدم على أهلها الفقيه عثمان ، فدام الحصار نحو سنة ، فلما اشتد الأمر على أهل البلد اجتمع جماعة منهم وراسلوا الموحدين أصحاب عبد المؤمن ، بغير علم الفقيه عثمان ، وأدخلوهم البلد ، فلم يشعر أهله إلا والسيف يأخذهم ، فقتل أكثر أهله ، وسبيت الذرية والحريم ، ونهب من الأموال ما لا يحصى ، ومن الجواهر ما لا تحد قيمته ، ومن لم يقتل بيع بأوكس الأثمان ، وكان عدة القتلى مائة ألف قتيل ، وقيل : إن عبد المؤمن هو الذي حصر تلمسان ، وسار منها إلى فاس ، والله أعلم .

[ ص: 664 ] وسير عبد المؤمن سرية إلى مكناسة ، فحصروها مدة ، ثم سلمها إليهم أهلها بالأمان فوفوا لهم .

وسار عبد المؤمن من فاس إلى مدينة سلا ففتحها ، وحضر عنده جماعة من أعيان سبتة ، فدخلوا في طاعته ، فأجابهم إلى بذل الأمان ، وكان ذلك سنة إحدى وأربعين وخمسمائة .

التالي السابق


الخدمات العلمية