صفحة جزء
ذكر ملك عبد المؤمن مدينة مراكش

لما فرغ عبد المؤمن من فاس ، وتلك النواحي ، سار إلى مراكش ، وهي كرسي مملكة الملثمين ، وهي من أكبر المدن وأعظمها ، وكان صاحبها حينئذ إسحاق بن علي بن يوسف بن تاشفين ، وهو صبي ، فنازلها ، وكان نزوله عليها سنة إحدى وأربعين وخمسمائة ، فضرب خيامه في غربيها على جبل صغير ، وبنى عليه مدينة له ولعسكره ، وبنى بها جامعا وبنى له بناء عاليا يشرف منه على المدينة ، ويرى أحوال أهلها ، وأحوال المقاتلين من أصحابه ، وقاتلها قتالا كثيرا ، وأقام عليها أحد عشر شهرا ، فكان من بها من المرابطين يخرجون يقاتلونهم بظاهر البلد ، واشتد الجوع على أهله ، وتعذرت الأقوات عندهم .

ثم زحف إليهم يوما ، وجعل لهم كمينا ، وقال لهم : إذا سمعتم صوت الطبل فاخرجوا ، وجلس هو بأعلى المنظرة التي بناها يشاهد القتال ، وتقدم عسكره ، وقاتلوا ، وصبروا ، ثم إنهم انهزموا لأهل مراكش ليتبعوهم إلى الكمين الذي لهم ، فتبعهم الملثمون إلى أن وصلوا إلى مدينة عبد المؤمن ، فهدموا أكثر سورها ، وصاحت المصامدة بعبد المؤمن ليأمر بضرب الطبل ليخرج الكمين ، فقال لهم : اصبروا حتى يخرج كل طامع في البلد ، فلما خرج أكثر أهله أمر بالطبل فضرب وخرج الكمين عليهم ، ورجع المصامدة المنهزمين إلى الملثمين ، فقتلوا كيف شاءوا ، وعادت الهزيمة على الملثمين ، فمات في زحمة الأبواب ما لا يحصيه إلا الله سبحانه .

وكان شيوخ الملثمين يدبرون دولة إسحاق بن علي بن يوسف لصغر سنه ، فاتفق أن إنسانا من جملتهم يقال له عبد الله بن أبي بكر خرج إلى عبد المؤمن مستأمنا وأطلعه [ ص: 665 ] على عوراتهم وضعفهم ، فقوي الطمع فيهم ، واشتد عليهم البلاء ، ونصب عليهم المنجنيقات والأبراج ، وفنيت أقواتهم ، وأكلوا دوابهم ، ومات من العامة بالجوع ما يزيد على مائة ألف إنسان ، فأنتن البلد من ريح الموتى .

وكان بمراكش جيش من الفرنج كان المرابطون قد استنجدوا بهم ، فجاءوا إليهم نجدة ، فلما طال عليهم الأمر راسلوا عبد المؤمن يسألون الأمان فأجابهم إليه ، ففتحوا له بابا من أبواب البلد يقال له باب أغمات ، فدخلت عساكره بالسيف ، وملكوا المدينة عنوة ، وقتلوا من وجدوا ، ووصلوا إلى دار أمير المسلمين ، فأخرجوا الأمير إسحاق وجميع من معه من أمراء المرابطين فقتلوا ، وجعل إسحاق يرتعد رغبة في البقاء ، ويدعو لعبد المؤمن ويبكي فقام إليه سير بن الحاج ، وكان إلى جانبه مكتوفا فبزق في وجهه ، وقال : تبكي على أبيك وأمك ؟ اصبر صبر الرجال ، فهذا رجل لا يخاف الله ولا يدين بدين .

فقام الموحدون إليه بالخشب فضربوه حتى قتلوه ، وكان من الشجعان المعروفين بالشجاعة ، وقدم إسحاق على صغر سنه ، فضربت عنقه سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة ، وهو آخر ملوك المرابطين وبه انقرضت دولتهم ، وكانت مدة ملكهم سبعين سنة ، وولي منهم أربعة : يوسف وعلي وتاشفين وإسحاق .

ولما فتح عبد المؤمن مراكش أقام بها ، واستوطنها واستقر ملكه . ولما قتل عبد المؤمن من أهل مراكش فأكثر فيهم القتل اختفى من أهلها ، فلما كان بعد سبعة أيام أمر فنودي بأمان من بقي من أهلها ، فخرجوا ، فأراد أصحابه المصامدة قتلهم ، فمنعهم ، وقال : هؤلاء صناع ، وأهل الأسواق من ننتفع به ، فتركوا ، وأمر بإخراج القتلى من البلد ، فأخرجوهم ، وبنى بالقصر جامعا كبيرا ، وزخرفه فأحسن عمله ، وأمر بهدم الجامع الذي بناه أمير المسلمين يوسف بن تاشفين .

ولقد أساء يوسف بن تاشفين في فعله بالمعتمد بن عباد ، وارتكب بسجنه على الحالة المذكورة أقبح مركب ، فلا جرم سلط الله [ عليه في عقابه ] من أربى في الأخذ عليه وزاد ، فتبارك الحي الدائم الملك ، الذي لا يزول ملكه ، وهذه سنة الدنيا ، فأف لها ، ثم أف ، نسأل الله أن يختم أعمالنا بالحسنى ، ويجعل خير أيامنا يوم نلقاه بمحمد وآله .

التالي السابق


الخدمات العلمية