صفحة جزء
[ ص: 683 ] 517

ثم دخلت سنة سبع عشرة وخمسمائة ذكر مسير المسترشد بالله لحرب دبيس

في هذه السنة كانت الحرب بين الخليفة المسترشد بالله ، وبين دبيس بن صدقة .

وكان سبب ذلك : أن دبيسا أطلق عفيفا خادم الخليفة ، وكان مأسورا عنده ، وحمله رسالة فيها تهديد للخليفة بإرسال البرسقي إلى قتاله ، وتقويته بالمال ، وأن السلطان كحل أخاه ، وبالغ في الوعيد ، ولبس السواد ، وجز شعره ، وحلف لينهبن بغداذ ، ويخربها ، فاغتاظ الخليفة لهذه الرسالة ، وغضب ، وتقدم إلى البرسقي بالتبريز إلى حرب دبيس ، فبرز في رمضان سنة ست عشرة وخمسمائة .

وتجهز الخليفة ، وبرز من بغداذ ، واستدعى العساكر ، فأتاه سليمان بن مهارش ، صاحب الحديثة ، في عقيل ، وأتاه قرواش بن مسلم ، وغيرهما ، وأرسل دبيسا إلى نهر ملك فنهب ، وعمل أصحابه كل عظيم من الفساد فوصل أهله إلى بغداذ ، فأمر الخليفة فنودي ببغداذ : لا يتخلف من الأجناد أحد ، ومن أحب الجندية من العامة فليحضر ، فجاء خلق كثير ، ففرق فيهم الأموال والسلاح .

فلما علم دبيس الحال كتب إلى الخليفة يستعطفه ويسأله الرضا عنه ، فلم يجب إلى ذلك ، وأخرجت خيام الخليفة في العشرين من ذي الحجة من سنة ست عشرة وخمسمائة ، فنادى أهل بغداذ : النفير النفير ، الغزاة الغزاة ! وكثر الضجيج من الناس ، وخرج منهم عالم كثير لا يحصون كثرة ، وبرز الخليفة رابع عشر ذي الحجة ، وعبر دجلة ، وعليه قباء أسود ، وعمامة سوداء وطرحة ، وعلى كتفه البردة ، وفي يده القضيب ، وفي وسطه منطقة حديد صيني ، ونزل الخيام ومعه وزير نظام الدين أحمد بن نظام [ ص: 684 ] الملك ، ونقيب الطالبيين ، ونقيب النقباء علي بن طراد ، وشيخ الشيوخ صدر الدين إسماعيل وغيرهم من الأعيان .

وكان البرسقي قد نزل بقرية جهار طاق ، ومعه عسكره ، فلما بلغهم خروج الخليفة عن بغداذ عادوا إلى خدمته ، فلما رأوا الشمسة ترجلوا بأجمعهم ، وقبلوا الأرض بالبعد منه .

ودخلت هذه السنة ، فنزل الخليفة ، مستهل المحرم ، بالحديثة ، بنهر الملك ، واستدعى البرسقي والأمراء ، واستحلفهم على المناصحة في الحرب ، ثم ساروا إلى النيل ، ونزلوا بالمباركة ، وعبأ البرسقي أصحابه ، ووقف الخليفة من وراء الجميع في خاصته ، وجعل دبيس أصحابه صفا واحدا ، ميمنة ، وميسرة ، وقلبا ، وجعل الرجالة بين يدي الخيالة بالسلاح ، وكان قد وعد أصحابه بنهب بغداذ ، وسبي النساء ، فلما تراءت الفئتان بادر أصحاب دبيس ، وبين أيديهم الإماء يضربن بالدفوف ، والمخانيث بالملاهي ، ولم ير في عسكر الخليفة غير قارئ ، ومسبح ، وداع ، فقامت الحرب على ساق .

وكان مع أعلام الخليفة الأمير كرباوي بن خراسان ، وفي الساقة سليمان بن مهارش ، وفي ميمنة عسكر البرسقي الأمير أبو بكر بن إلياس مع الأمراء البكجية ، فحمل عنتر بن أبي العسكر في طائفة من عسكر دبيس على ميمنة البرسقي ، فتراجعت على أعقابها ، وقتل ابن أخ للأمير أبي بكر البكجي ، وعاد عنتر وحمل حملة ثانية على هذه الميمنة ، فكان حالها في الرجوع على أعقابها كحالها الأول ، فلما رأى عسكر واسط ذلك ، ومقدمهم الشهيد عماد الدين زنكي بن آقسنقر ، حمل وهم معه على عنتر ومن معه ، وأتوهم من ظهورهم فبقي عنتر في الوسط ، وعماد الدين وعسكر واسط من ورائه ، والأمراء البكجية بين يديه ، فأسر عنتر ، وأسر معه بريك بن زائدة وجميع من معهما ولم يفلت أحد .

وكان البرسقي واقفا على نشز من الأرض ، وكان الأمير آق بوري في الكمين في خمسمائة فارس ، فلما اختلط الناس خرج الكمين على عسكر دبيس ، فانهزموا جميعهم وألقوا نفوسهم في الماء ، فغرق منهم ، وقتل كثير .

ولما رأى الخليفة اشتداد الحرب جرد سيفه وكبر وتقدم إلى الحرب ، فلما انهزم عسكر دبيس وحملت الأسرى إلى بين يديه أمر الخليفة أن تضرب أعناقهم صبرا .

وكان عسكر دبيس عشرة آلاف فارس ، واثني عشر ألف راجل ، وعسكر البرسقي ثمانية آلاف فارس ، وخمسة آلاف راجل ، ولم يقتل من أصحاب الخليفة غير عشرين [ ص: 685 ] فارسا ، وحصل نساء دبيس وسراريه تحت الأسر سوى بنت إيلغازي ، ، وبنت عميد الدولة بن جهير فإنه كان تركهما في المشهد .

وعاد الخليفة إلى بغداذ ، فدخلها يوم عاشوراء من هذه السنة .

ولما عاد الخليفة إلى بغداذ ثار العامة بها ، ونهبوا مشهد باب التبن ، وقلعوا أبوابه ، فأنكر الخليفة ذلك ، وأمر نظر أمير الحاج بالركوب إلى المشهد ، وتأديب من فعل ذلك ، وأخذ ما نهب ، ففعل وأعاد البعض وخفي الباقي عليه .

وأما دبيس بن صدقة فإنه لما انهزم بفرسه وسلاحه ، وأدركته الخيل ففاتها وعبر الفرات ، فرأته امرأة عجوز وقد عبر ، فقالت له : دبير جئت ؟ فقال : دبير من لم يجئ . واختفى خبره بعد ذلك ، وأرجف عليه بالقتل ، ثم ظهر أمره أنه قصد غزية من عرب نجد ، فطلب منهم أن يحالفوه ، فامتنعوا عليه وقالوا : إنا نسخط الخليفة والسلطان ، فرحل إلى المنتفق ، واتفق معهم على قصد البصرة وأخذها ، فساروا إليها ودخلوها ، ونهبوا أهلها ، وقتل الأمير سخت كمان مقدم عسكرها ، وأجلي أهلها .

فأرسل الخليفة إلى البرسقي يعاتبه على إهماله أمر دبيس ، حتى تم له من أمر البصرة ما أخربها ، فتجهز البرسقي للانحدار إليه ، فسمع دبيس ذلك ، ففارق البصرة ، وسار على البر إلى قلعة جعبر ، والتحق بالفرنج ، وحضر معهم حصار حلب ، وأطمعهم في أخذها ، فلم يظفروا بها ، فعادوا عنها ، ثم فارقهم والتحق بالملك طغرل ابن السلطان محمد ، فأقام معه ، وحسن له قصد العراق ، وسنذكره سنة تسع وعشرين وخمسمائة ، إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية