صفحة جزء
ذكر غزوة أحد

وفيها في شوال لسبع ليال خلون منه كانت وقعة أحد ، وقيل للنصف منه ، وكان الذي هاجها وقعة بدر ، فإنه لما أصيب من المشركين من أصيب ببدر مشى عبد الله بن أبي ربيعة ، وعكرمة بن أبي جهل ، وصفوان بن أمية ، وغيرهم ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم بها ، فكلموا أبا سفيان ومن كان له في تلك العير تجارة ، وسألوهم أن يعينوهم بذلك المال على حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدركوا ثأرهم منهم ففعلوا . [ ص: 40 ] وتجهز الناس وأرسلوا أربعة نفر ، وهم : عمرو بن العاص ، وهبيرة بن أبي وهب ، وابن الزبعرى ، وأبو عزة الجمحي ، فساروا في العرب ليستنفروهم ، فجمعوا جمعا من ثقيف وكنانة وغيرهم ، واجتمعت قريش بأحابيشها ومن أطاعها من قبائل كنانة وتهامة ، ودعا جبير بن مطعم غلامه وحشي بن حرب ، وكان حبشيا يقذف بالحربة قل ما يخطئ ، فقال له : اخرج مع الناس ، فإن قتلت عم محمد بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيق .

وخرجوا معهم بالظعن لئلا يفروا ، وكان أبو سفيان قائد الناس ، فخرج بزوجته هند بنت عتبة ، وغيره من رؤساء قريش خرجوا بنسائهم ، خرج عكرمة بن أبي جهل بزوجته أم حكيم بنت الحارث بن هشام ، وخرج الحارث بن المغيرة بفاطمة بنت الوليد بن المغيرة أخت خالد ، وخرج صفوان بن أمية ببريرة ، وقيل : برزة بنت مسعود الثقفية أخت عروة بن مسعود ، وهي أم ابنه عبد الله بن صفوان ، وخرج عمرو بن العاص بريطة بنت منبه بن الحجاج ، وهي أم ولده عبيد الله بن عمرو ، وخرج طلحة بن أبي طلحة بسلافة بنت سعد ، وهي أم بنيه مسافع والجلاس وكلاب وغيرهم .

وكان مع النساء الدفوف يبكين على قتلى بدر يحرضن بذلك المشركين .

وكان مع المشركين أبو عامر الراهب الأنصاري ، وكان خرج إلى مكة مباعدا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه خمسون غلاما من الأوس ، وقيل كانوا خمسة عشر ، وكان يعد قريشا أنه لو لقي محمدا لم يتخلف عنه من الأوس رجلان . فلما التقى الناس بأحد كان أبو عامر أول من لقي في الأحابيش وعبدان أهل مكة ، فنادى : يا معشر الأوس ، أنا أبو عامر . فقالوا : فلا أنعم الله بك عينا يا فاسق ! فقال : لقد أصاب قومي بعدي شر ، ثم قاتلهم قتالا شديدا حتى راضخهم بالحجارة . وكانت هند كلما مرت بوحشي أو مر بها قالت له : يا أبا دسمة ، اشف واستشف ، وكان يكنى أبا دسمة . فأقبلوا حتى نزلوا بعينين بجبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مما يلي المدينة .

فلما سمع بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون قال : إني رأيت بقرا فأولتها خيرا ، [ ص: 41 ] ورأيت في ذباب سيفي ثلما ، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة ، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم ، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام ، وإن دخلوا علينا قاتلناهم فيها .

وكان رأي عبد الله بن أبي ابن سلول مع رأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكره الخروج ، وأشار بالخروج جماعة ممن استشهد يومئذ .

وأقامت قريش يوم الأربعاء والخميس والجمعة ، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين صلى الجمعة فالتقوا يوم السبت نصف شوال . فلما لبس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلاحه وخرج ندم الذين كانوا أشاروا بالخروج إلى قريش وقالوا : استكرهنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونشير عليه ، فالوحي يأتيه فيه ، فاعتذروا إليه وقالوا : اصنع ما شئت . فقال : لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل .

فخرج في ألف رجل ، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم ، فلما كان بين المدينة وأحد عاد عبد الله بن أبي بثلث الناس ، فقال : أطاعهم وعصاني ، وكان يذكر من تبعه أهل النفاق والريب ، واتبعهم عبد الله بن حرام أخو بني سلمة يذكرهم الله أن لا يخذلوا نبيهم ، فقالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ، وانصرفوا . فقال : أبعدكم الله أعداء الله ! فسيغني الله عنكم !

وبقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سبعمائة ، فسار في حرة بني حارثة وبين أموالهم ، فمر بمال رجل من المنافقين يقال له مربع بن قيظي ، وكان ضرير البصر ، فلما سمع حس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه قام يحثي التراب في وجوههم ويقول : إن كنت رسول الله فإني لا أحل لك أن تدخل حائطي ، وأخذ حفنة من تراب في يده وقال : لو أعلم أني لا أصيب غيرك لضربت به وجهك . فابتدروه ليقتلوه ، فقال النبي ، صلى الله عليه وسلم : لا تفعلوا ؛ فهذا الأعمى أعمى البصر والقلب . فضربه سعد بن زيد بقوس فشجه .

وذب فرس بذنبه فأصاب كلاب سيف صاحبه ، فاستله ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم : [ ص: 42 ] سيوفكم ، فإني أرى السيوف ستسل اليوم .

وسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزل بعدوة الوادي ، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد .

وكان المشركون ثلاثة آلاف ، منهم سبعمائة دارع ، والخيل مائتي فرس ، والظعن خمس عشرة امرأة ، وكان المسلمون مائة دارع ، ولم يكن من الخيل غير فرسين ، فرس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفرس لأبي بردة بن نيار ، وعرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المقاتلة فرد زيد بن ثابت ، وابن عمر ، وأسيد بن حضير ، والبراء بن عازب ، وعرابة بن أوس ، وأبا سعيد الخدري وغيرهم ، وأجاز جابر بن سمرة ، ورافع بن خديج .

وأرسل أبو سفيان إلى الأنصار يقول : خلوا بيننا وبين ابن عمنا ، فننصرف عنكم فلا حاجة بنا إلى قتالكم . فردوا عليه بما يكره .

وتعبأ المشركون فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد ، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل ، وكان لواؤهم مع بني عبد الدار ، فقال لهم أبو سفيان : إنما يؤتى الناس من قبل راياتهم ، فإما أن تكفونا وإما أن تخلوا بيننا وبين اللواء . يحرضهم بذلك . فقالوا : ستعلم إذا التقينا كيف نصنع . وذلك أراد .

واستقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وترك أحدا خلف ظهره ، وجعل وراءه الرماة ، وهم خمسون رجلا ، وأمر عليهم عبد الله بن جبير ، أخا خوات بن جبير ، وقال له : انضح عنا الخيل بالنبل ، لا يأتونا من خلفنا ، واثبت مكانك إن كانت لنا أو علينا . وظاهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين درعين ، وأعطى اللواء مصعب بن عمير ، وأمر الزبير على الخيل ومعه المقداد ، وخرج حمزة بالجيش بين يديه .

وأقبل خالد وعكرمة فلقيهما الزبير والمقداد فهزما المشركين ، وحمل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فهزموا أبا سفيان ، وخرج طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين وقال : يا معشر أصحاب محمد ، إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار ، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة ، فهل أحد منكم يعجله سيفي إلى الجنة أو يعجلني سيفه إلى النار ؟ فبرز إليه علي بن أبي طالب فضربه علي فقطع رجله ، فسقط وانكشفت عورته ، فناشده الله والرحم فتركه ، فكبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال لعلي : ما منعك أن تجهز عليه ؟ قال : إنه [ ص: 43 ] ناشدني الله والرحم ، فاستحييت منه .

وكان بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيف ، فقال : من يأخذه بحقه ؟ فقام إليه رجال ، فأمسكه عنهم حتى قام أبو دجانة فقال : وما حقه يا رسول الله ؟ قال : تضرب به العدو حتى تثخن . قال أنا آخذه . فأعطاه إياه . وكان شجاعا ، وكان إذا أعلم بعصابة له حمراء علم الناس أنه يقاتل ، فعصب رأسه بها وأخذ السيف ، وجعل يتبختر بين الصفين . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إنها مشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن . فجعل لا يرتفع له شيء إلا حطمه حتى انتهى إلى نسوة في سفح الجبل معهن دفوف لهن فيهن امرأة تقول :

نحن بنات طارق نمشي على النمارق إن تقبلوا نعانق ونفرش النمارق     أو تدبروا نفارق فراق غير وامق



وتقول أيضا :


إيها بني عبد الدار     إيها حماة الديار ضربا بكل بتار



فرفع السيف ليضربها ، ثم أكرم سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يضرب به امرأة . وكانت المرأة هند ، والنساء معها يضربن بالدفوف خلف الرجال يحرضن .

واقتتل الناس قتالا شديدا ، وأمعن في الناس حمزة وعلي ، وأبو دجانة في رجال المسلمين ، وأنزل الله نصره على المسلمين ، وكانت الهزيمة على المشركين ، وهرب النساء مصعدات في الجبل ، ودخل المسلمون عسكرهم ينهبون . فلما نظر بعض الرماة [ ص: 44 ] إلى العسكر حين انكشف الكفار عنه أقبلوا يريدون النهب ، وثبت طائفة وقالوا : نطيع رسول الله ونثبت مكاننا ، فأنزل الله : منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ، يعني اتباع أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

قال ابن مسعود : وما علمت أن أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد الدنيا حتى نزلت الآية .

فلما فارق بعض الرماة مكانهم رأى خالد بن الوليد قلة من بقي من الرماة ، فحمل عليهم فقتلهم ، وحمل على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من خلفهم . فلما رأى المشركون خيلهم تقاتل تبادروا ، فشدوا على المسلمين فهزموهم وقتلوهم .

وقد كان المسلمون قتلوا أصحاب اللواء ، فبقي مطروحا لا يدنو منه أحد ، فأخذته عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته ، فاجتمعت قريش حوله ، وأخذه صؤاب فقتل عليه ، وكان الذي قتل أصحاب اللواء علي ، قاله أبو رافع ، قال : فلما قتلهم أبصر النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة من المشركين ، فقال لعلي : احمل عليهم ، ففرقهم وقتل فيهم ، ثم أبصر جماعة أخرى فقال له : احمل عليهم ، فحمل عليهم وفرقهم وقتل فيهم ، فقال جبرائيل : يا رسول الله ، هذه المؤاساة ! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إنه مني وأنا منه . فقال جبرائيل : وأنا منكما . قال : فسمعوا صوتا : لا سيف إلا ذو الفقار ، ولا فتى إلا علي .

وكسرت رباعية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السفلى ، وشقت شفته ، وكلم في وجنته وجبهته في أصول شعره ، وعلاه ابن قمئة بالسيف ، وكان هو الذي أصابه ، وقيل : أصابه عتبة بن أبي وقاص ، وقيل : عبد الله بن شهاب الزهري جد محمد بن مسلم .

وقيل : إن عتبة بن أبي وقاص ، وابن قمئة الليثي الأدرمي ، من بني تيم بن غالب - وكان أدرم ناقص الذقن - وأبي بن خلف الجمحي ، وعبد الله بن حميد الأسدي ، أسد قريش تعاقدوا على قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فأما ابن شهاب فأصاب [ ص: 45 ] جبهته ، وأما عتبة فرماه بأربعة أحجار فكسر رباعيته اليمنى ، وشق شفته ، وأما ابن قمئة ، فكلم وجنته ودخل من حلق المغفر فيها ، وعلاه بالسيف فلم يطق أن يقطعه ، فسقط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجحشت ركبته ، وأما أبي بن خلف فشد عليه بحربة ، فأخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه وقتله بها ، وقيل : بل كانت حربة الزبير أخذها منه ، وقيل : أخذها من الحارث بن الصمة ، وأما عبد الله بن حميد فقتله أبو دجانة الأنصاري .

التالي السابق


الخدمات العلمية