صفحة جزء
ذكر خلافة المقتفي لأمر الله لما قطعت خطبة الراشد بالله استشار السلطان جماعة من أعيان بغداد منهم الوزير علي بن طراد ، وصاحب المخزن ، وغيرهما - فيمن يصلح أن يلي الخلافة . فقال الوزير :

أحد عمومة الراشد ، وهو رجل صالح . قال :

من هو ، قال :

من لا أقدر أن أفصح باسمه ؛ لئلا يقتل ، فتقدم إليهم بعمل محضر في خلع الراشد ، فعملوا محضرا ذكروا فيه ما ارتكبه من أخذ الأموال ، وأشياء تقدح في الإمامة ، ثم كتبوا فتوى :

ما يقول العلماء فيمن هذه صفته ، هل يصلح للإمامة أم لا ؟ فأفتوا أن من هذه صفته لا يصلح أن يكون إماما .

فلما فرغوا من ذلك أحضروا القاضي أبا طاهر بن الكرخي ، فشهدوا عنده بذلك ، فحكم بفسقه وخلعه ، وحكم بعده غيره ، ولم يكن قاضي القضاة حاضرا ليحكم ؛ فإنه كان عند أتابك زنكي بالموصل .

ثم إن شرف الدين الوزير ذكر للسلطان أبا عبد الله الحسين ، وقيل : محمد بن المستظهر بالله - ودينه ، وعقله ، وعفته ، ولين جانبه ، فحضر السلطان دار الخلافة ومعه الوزير شرف الدين الزينبي ، وصاحب المخزن ابن البقشلامي ، وغيرهما ، وأمر بإحضار الأمير أبي عبد الله بن المستظهر من المكان الذي يسكن فيه ، فأحضر ، وأجلس في المثمنة ، ودخل السلطان إليه والوزير شرف الدين ، وتحالفا ، وقرر الوزير القواعد بينهما ، وخرج السلطان من عنده ، وحضر الأمراء وأرباب المناصب ، والقضاء ، والفقهاء ، وبايعوا ثامن عشر ذي الحجة ، ولقب المقتفي لأمر الله .

[ ص: 78 ] قيل : سبب اللقب أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يلي الخلافة بستة أيام وهو يقول له :

إن هذا الأمر يصير إليك ، فاقتف بي . فلقب بذلك .

ولما استخلف سيرت الكتب الحكمية بخلافته إلى سائر الأمصار ، واستوزر شرف الدين علي بن طراد الزينبي فأرسل إلى الموصل ، وأحضر قاضي القضاة أبا القاسم علي بن الحسين الزينبي عم الوزير ، وأعاده إلى منصبه ، وقرر كمال الدين حمزة بن طلحة على منصبه صاحب المخزن ، وجرت الأمور على أحسن نظام .

وبلغني أن السلطان مسعودا أرسل إلى الخليفة المقتفي لأمر الله في تقرير إقطاع يكون لخاصته ، فكان جوابه :

إن في الدار ثمانين بغلا تنقل الماء من دجلة ، فلينظر السلطان ما يحتاج إليه من شرب هذا الماء ويقوم به ، فتقررت القاعدة على أن يجعل له ما كان للمستظهر بالله ، فأجاب إلى ذلك .

وقال السلطان لما بلغه قوله :

لقد جعلنا في الخلافة رجلا عظيما نسأل .

والمقتفي عم الراشد هو والمسترشد ابنا المستظهر ، وليا الخلافة ، وكذلك السفاح والمنصور أخوان ، وكذلك المهدي والرشيد أخوان ، وكذلك الواثق والمتوكل أخوان ، وأما ثلاثة إخوة ولوا الخلافة فالأمين والمأمون والمعتصم أولاد الرشيد ، والمكتفي والمقتدر والقاهر بنو المعتضد ، والراضي والمتقي والمطيع بنو المقتدر ، وأما أربعة إخوة ولوها فالوليد وسليمان ويزيد وهشام بنو عبد الملك بن مروان لا يعرف غيرهم .

وحين استقرت الخلافة للمقتفي أرسل إليه الراشد بالله رسولا من الموصل مع رسول أتابك زنكي ، فأما رسول الراشد فلم تسمع رسالته ، وأما رسول أتابك زنكي [ ص: 79 ] فكان كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزوري ، فأحضر في الديوان ، وسمعت رسالته ، وحكى لي والدي عنه قال :

لما حضرت الديوان قيل لي :

تبايع أمير المؤمنين ؟ فقلت :

أمير المؤمنين عندنا في الموصل وله في أعناق الخلق بيعة متقدمة .

وطال الكلام ، وعدت إلى منزلي .

فلما كان الليل جاءتني امرأة عجوز سرا واجتمعت بي ، وأبلغتني رسالة عن المقتفي لأمر الله مضمونها عتابي على ما قلته واستنزالي عنه . فقلت :

غدا أخدم خدمة يظهر أثرها .

فلما كان الغد أحضرت الديوان ، وقيل لي في معنى البيعة ، فقلت :

أنا رجل فقيه قاض ، ولا يجوز لي أن أبايع إلا بعد أن يثبت عندي خلع المتقدم .

فأحضروا الشهود ، وشهدوا عندي في الديوان بما أوجب خلعه ، فقلت :

هذا ثابت لا كلام فيه ، ولكن لا بد لنا في هذه الدعوة من نصيب ؛ لأن أمير المؤمنين قد حصل له خلافة الله في أرضه والسلطان ، فقد استراح ممن كان يقصده ، ونحن بأي شيء نعود ؟ فرفع الأمر إلى الخليفة ، فأمر أن يعطى أتابك زنكي صريفين ، ودرب هرون ، وحربى ملكا ، وهي من خاص الخليفة ، ويزاد في ألقابه ، وقال : هذه قاعدة لم يسمح بها لأحد من زعماء الأطراف أن يكون لهم نصيب في خاص الخليفة .

فبايعت وعدت مقضي الحوائج قد حصل لي جملة صالحة من المال والتحف .

وكانت بيعة ، وخطب للمقتفي في الموصل في رجب سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة ، ولما عاد كمال الدين بن الشهرزوري سير على يده المحضر الذي عمل بخلع الراشد ، فحكم به قاضي القضاة الزينبي بالموصل ( وكان عند أتابك زنكي ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية