صفحة جزء
ذكر عمرة الحديبية

في هذه السنة خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معتمرا في ذي القعدة ، لا يريد حربا ، ومعه جماعة من المهاجرين والأنصار ، ومن تبعه من الأعراب ألف وأربعمائة ، وقيل : ألف وخمسمائة ، وقيل : ثلاثمائة ، وساق الهدي معه سبعين بدنة ؛ ليعلم الناس أنه إنما جاء زائرا للبيت . فلما بلغ عسفان لقيه بسر بن سفيان الكعبي فقال : يا رسول الله ، هذه قريش قد سمعوا بمسيرك ، فاجتمعوا بذي طوى يحلفون بالله لا تدخلها عليهم أبدا ، وقد قدموا خالد بن الوليد إلى كراع الغميم .

وقيل : إن خالدا كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مسلما ، وإنه أرسله ، فلقي عكرمة بن أبي جهل فهزمه . والأول أصح .

ولما بلغه بسر ما فعلت قريش ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : يا ويح قريش ، قد أكلتهم الحرب ! ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس ، فإن أصابوني كان الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله دخلوا في الإسلام وافرين ، والله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله ، أو تنفرد هذه السالفة .

ثم خرج على غير الطريق التي هم بها ، وسلك ذات اليمين ، حتى سلك ثنية المرار على مهبط الحديبية ، فبركت به ناقته ، فقال الناس : خلأت . فقال : ما خلأت ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة ، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها . ثم قال للناس : انزلوا . فقالوا : ما بالوادي ماء . فأخرج سهما من كنانته ، فأعطاه رجلا من أصحابه ، فنزل في قليب من تلك القلب ، فغرزه في جوفه ، فجاش الماء بالري حتى ضرب الناس عنه بعطن
، وكان اسم الذي أخذ السهم [ ص: 83 ] ناجية بن عمير ، سائق بدن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

فبينما هم كذلك أتاهم بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه خزاعة ، وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تهامة ، فقال : تركت كعب بن لؤي ، وعامر بن لؤي ، قد نزلوا أعداد مياه الحديبية ، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : إنا لم نأت لقتال أحد ، ولكنا جئنا معتمرين ، وإن شاءت قريش ماددناهم مدة ، ويخلوا بيني وبين الناس ، وإن أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي .

فانطلق بديل إلى قريش فأعلمهم ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام عروة بن مسعود الثقفي فقال : إن هذا الرجل عرض عليكم خطة رشد ، فاقبلوها ، دعوني آته ، فقالوا : ائته . فأتاه وكلمه ، فقال له : يا محمد ، جمعت أوشاب الناس ، ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم ، إنها قريش خرجت معها العوذ المطافيل ، قد لبسوا جلود النمور ، يعاهدون الله أنك لا تدخلها عليهم عنوة أبدا ، وايم الله لكأني بهؤلاء قد تكشفوا عنك غدا . فقال أبو بكر : امصص بظر اللات ! أنحن ننكشف عنه ؟ قال : من هذا يا محمد ؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم : هذا ابن أبي قحافة . فقال : أما والله لولا يد لك عندي لكفأتك بها . ثم جعل يتناول لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يكلمه والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديد ، فجعل يقرع يده إذا تناولها ويقول له : اكفف يدك قبل أن لا تصل إليك ، فقال عروة : من هذا ؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم : هذا ابن أخيك المغيرة . فقال : أي غدر ! وهل غسلت سوءتك إلا بالأمس ؟ - وكان المغيرة قد قتل ثلاثة عشر رجلا من بني مالك وهرب ، فتهايج الحيان بنو مالك رهط المقتولين ، والأحلاف رهط المغيرة ، فودى عروة للمقتولين ثلاث عشرة دية ، وأصلح ذلك الأمر .

وطال الكلام بينهما : فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو مقالته لبديل ، فقال له عروة : يا محمد ، أرأيت إن استأصلت قومك ، فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك ؟ وجعل يرمق أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فوالله لا يتنخم النبي نخامة إلا وقعت في كف [ ص: 84 ] أحدهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإن أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وما يحدون النظر إليه ؛ تعظيما له .

فرجع عروة إلى أصحابه وقال : أي قوم ، وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي ، فوالله ما رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا ! وحدثهم ما رأى ، وما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - .

فقال رجل من كنانة اسمه الحليس بن علقمة ، وهو سيد الأحابيش : دعوني آته . فقالوا : ائته . فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : هذا فلان ، هو من قوم يعظمون البدن ، فابعثوا الهدي في وجهه . فلما رأى الهدي رجع إلى قريش ولم يصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا قوم ، قد رأيت ما لا يحل صده ، الهدي في قلائده . فقالوا : اجلس ، فإنما أنت أعرابي لا علم لك . فقال : والله ما على هذا حالفناكم ؛ أن تصدوا عن البيت من جاء معظما له ، والذي نفسي بيده لتخلن بين محمد وبين البيت ، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد . قال : فقالوا : مه ! كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا .

فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال : دعوني آته . فقالوا : افعل . فلما أشرف على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه : هذا رجل فاجر . فجعل يكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو ، فلما جاء قال النبي : سهل أمركم .

وقال ابن إسحاق : إن قريشا إنما بعثت سهيلا بعد رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع عثمان بن عفان . قال : لما رجع عروة بن مسعود إلى قريش بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خراش بن أمية الخزاعي إلى قريش على جمل له يقال له : الثعلب ، ليبلغ عنه ، فعقروا به جمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأرادوا قتله ، فمنعته الأحابيش وخلوا سبيله ، حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر ليرسله إلى مكة ، فقال : ليس بمكة من بني عدي من يمنعني ، وقد علمت قريش عداوتي لها ، وأخافها على نفسي ، فأرسل عثمان فهو أعز بها مني . فدعا عثمان فأرسله ليبلغ عنه ، فانطلق ، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص فأجاره ، فأتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا لعثمان حين فرغ من أداء الرسالة : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به ، فقال : ما كنت لأفعل حتى يطوف به النبي - صلى الله عليه وسلم - فاحتبسته قريش عندها ، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قد قتل ، فقال : لا نبرح حتى نناجز القوم .

[ ص: 85 ] ثم دعا الناس إلى البيعة ، فبايعوه تحت الشجرة
، وهي سمرة ، لم يتخلف منهم أحد إلا الجد بن قيس ، وكان أول من بايعه رجل من بني أسد يقال له : أبو سنان . ثم أتى الخبر أن عثمان لم يقتل .

ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو أخا بني عامر بن لؤي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليصالحه على أن يرجع عنهم عامه ذلك ، فأقبل سهيل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأطال معه الكلام وتراجعا ، ثم جرى بينهم الصلح ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب ، فقال : اكتب باسم الله الرحمن الرحيم . فقال سهيل : لا نعرف هذا ، ولكن اكتب : باسمك اللهم ، فكتبها ، ثم قال : اكتب : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو - فقال سهيل : لو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك . فقال لعلي : امح رسول الله . فقال : لا أمحوك أبدا . فأخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس يحسن يكتب ، فكتب موضع رسول الله : محمد بن عبد الله ، وقال لعلي : لتبلين بمثلها - اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين ، وأنه من أتى منهم رسول الله بغير إذن وليه رده إليهم ، ومن جاء قريشا ممن مع رسول الله لم يردوه عليه ، ومن يحب أن يدخل في عهد رسول الله دخل ، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش دخل .

فدخلت خزاعة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودخلت بنو بكر في عهد قريش ، وأن يرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهم عامه ذلك ، فإذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك ، فأقمت بها ثلاثا وسلاح الراكب السيوف في القرب .

فبينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يكتب الكتاب إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد ، قد انفلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يشكون في الفتح ؛ لرؤيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رأوا الصلح دخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون . فلما رأى سهيل ابنه أبا جندل أخذه وقال : يا محمد ، قد تمت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا . قال : صدقت ، وأخذه ليرده إلى قريش ، فصاح أبو جندل : يا معشر المسلمين ، أرد إلى المشركين ليفتنوني عن ديني ! فزاد الناس شرا إلى ما بهم ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم : احتسب ، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا ، إنا قد أعطينا القوم عهودنا على ذلك ، فلا نغدر بهم
. قال : فوثب عمر بن الخطاب يمشي مع أبي جندل ، ويقول له : اصبر واحتسب ، فإنما هم المشركون ، وإنما دم أحدهم دم كلب ! وأدنى قائم السيف منه رجاء أن يأخذه فيضرب به أباه ، قال : فبخل الرجل بأبيه .

[ ص: 86 ] وشهد على الصلح جماعة من المسلمين ، فيهم : أبو بكر ، وعمر ، وعبد الرحمن بن عوف ، وغيرهم ، وجماعة من المشركين .

فلما فرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - من قضيته قال : قوموا فانحروا ثم احلقوا . فما قام أحد حتى قال ذلك مرارا ، فلما لم يقم أحد منهم دخل على أم سلمة فذكر لها ذلك ، فقالت : يا نبي الله ، اخرج ، ولا تكلم أحدا منهم حتى تنحر بدنك ، وتحلق شعرك ، ففعل ، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وحلقوا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما ، فما فتح في الإسلام قبله فتح كان أعظم منه ، حيث أمن الناس كلهم ، فدخل في الإسلام تينك السنتين مثل ما دخل فيه قبل ذلك وأكثر .

فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة جاءه أبو بصير عتبة بن أسيد بن جارية الثقفي ، وهو مسلم ، وكان ممن حبس بمكة ، فكتب فيه الأزهر بن عبد عوف ، والأخنس بن شريق ، وبعثا فيه رجلا من بني عامر بن لؤي ومعه مولى لهم ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم : قد علمت أنا قد أعطينا هؤلاء القوم عهدا ، ولا يصلح الغدر في ديننا . فانطلق معهما إلى ذي الحليفة فجلسوا ، وأخذ أبو بصير سيف أحدهما فقتله به ، وخرج المولى سريعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بقتل صاحبه ، ثم أقبل أبو بصير فقال : يا رسول الله ، قد وفت ذمتك وأنجاني الله منهم . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ويل أمه مسعر حرب لو كان له رجال ! فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم ، فخرج أبو بصير حتى نزل بناحية ذي المروة على ساحل البحر ، على طريق قريش إلى الشام ، وبلغ المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكة ذلك ، فخرجوا إلى أبي بصير ، منهم أبو جندل ، فاجتمع إليه قريب من سبعين رجلا ، فضيقوا على قريش يعترضون العير تكون لهم ، فأرسلت قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يناشدونه الله والرحم لما أرسل إليهم ، فمن أتاه فهو آمن ، فآواهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وفيها نزلت سورة الفتح ، وهاجر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسوة مؤمنات ، فيهن أم كلثوم ابنة عقبة بن أبي معيط ، فجاء أخوها عمارة والوليد يطلبانها ، فأنزل الله : فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار الآية ، فلم يرسل امرأة مؤمنة إلى مكة ، وأنزل الله ولا تمسكوا بعصم الكوافر فطلق عمر بن الخطاب امرأتين له ، [ ص: 87 ] إحداهما قريبة بنت أبي أمية ، والثانية أم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعي ، وهما مشركتان ، فتزوج أم كلثوم أبو جهم بن حذيفة بن غانم .

( بسر بضم الباء الموحدة ، وسكون السين المهملة ، وآخره راء . بصير بالباء الموحدة المفتوحة ، والصاد المهملة المكسورة ، والياء الساكنة تحتها نقطتان ، وآخره راء أيضا . وأسيد بفتح الهمزة ، وكسر السين . وجارية بالجيم . والحليس بضم الحاء المهملة ، وفتح اللام ، وبعده ياء تحتها نقطتان ، وآخره سين مهملة ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية