صفحة جزء
ذكر حصر السلطان محمد بغداد

في هذه السنة في ذي الحجة ، حصر السلطان محمد بغداد ، وسبب ذلك أن السلطان محمد بن محمود كان قد أرسل إلى الخليفة يطلب أن يخطب له ببغداد والعراق ، فامتنع الخليفة من إجابته إلى ذلك ، فسار من همذان في عساكر كثيرة نحو العراق ، ووعده أتابك قطب الدين ، صاحب الموصل ، ونائبه زين الدين علي بإرسال [ ص: 232 ] العساكر إليه نجدة له على حصر بغداد ، فقدم العراق في ذي الحجة سنة إحدى وخمسين [ وخمسمائة ] ، واضطرب الناس ببغداد ، وأرسل الخليفة يجمع العساكر فأقبل خطلبرس من واسط وعصى أرغش ، صاحب البصرة ، وأخذ واسط ، ورحل مهلهل إلى الحلة فأخذها ، واهتم الخليفة وعون الدين بن هبيرة بأمر الحصار ، وجمع جميع السفن وقطع الجسر وجعل الجميع تحت التاج ، ونودي منتصف المحرم سنة اثنتين وخمسين [ وخمسمائة ] ، أن لا يقيم أحد بالجانب الغربي ، فأجفل الناس وأهل السواد ، ونقلت الأموال إلى حريم دار الخلافة ، وخرب الخليفة قصر عيسى والمربعة والقرية والمستجدة والنجمي ، ونهب أصحابه ما وجدوا ، وخرب أصحاب محمد شاه نهر القلابين ، والتوثة ، وشارع ابن رزق الله وباب الميدان وقطفتا .

وأما أهل الكرخ وأهل باب البصرة فإنهم خرجوا إلى عسكر محمد ، وكسبوا معهم أموالا كثيرة .

وعبر السلطان محمد فوق حربى إلى الجانب الغربي ، ونهبت أوانا ، واتصل به زين الدين هناك ، وساروا ، فنزل محمد شاه عند الرملة ، وفرق الخليفة السلاح على الجند والعامة ، ونصب المجانيق والعرادات .

فلما كان في العشرين من المحرم ركب عسكر محمد شاه وزين الدين علي ، ووقفوا عند الرقة ، ورموا بالنشاب إلى ناحية التاج ، فعبر إليهم عامة بغداد فقاتلوهم ، ورموهم بالنفط وغيره ، ثم جرى بينهم عدة حروب .

وفي ثالث صفر عاودوا القتال ، واشتدت الحرب ، وعبر كثير من أهل بغداد سباحة وفي السفن ، فقتلوا ; وكان يوما مشهودا .

ولم تزل الحرب بينهم كل وقت ، وعمل الجسر على دجلة وعبر عليه أكثر العسكر إلى الجانب الشرقي ، وصار القتال في الجانبين ، وبقي زين الدين في الجانب الغربي ، وأمر الخليفة فنودي : كل من جرح فله خمسة دنانير ، فكان كلما جرح إنسان يحضر عند الوزير فيعطيه خمسة دنانير ، فاتفق أن بعض العامة جرح جرحا ليس بكبير ، [ ص: 233 ] فحضر يطلب الدنانير ، فقال له الوزير : ليس هذا الجرح بشيء ، فعاود القتال ، فضرب ، فانشق جوفه وخرج شيء من شحمه ، فحمل إلى الوزير فقال : يا مولانا الوزير أيرضيك هذا ؟ فضحك منه ، وأضعف له ، ورتب له من يعالج جراحته إلى أن برئ .

وتعذرت الأقوات في العسكر إلا أن اللحم والفواكه والخضر كثيرة ، وكانت الغلات ببغداد كثيرة ; لأن الوزير كان يفرقها في الجند عوض الدنانير فيبيعونها ، فلم تزل الأسعار عندهم رخيصة ، إلا أن اللحم والفاكهة والخضر قليلة عندهم .

واشتد الحصار على أهل بغداد لانقطاع المواد عنهم وعدم المعيشة لأهلها ; وكان زين الدين وعسكر الموصل غير مجدين في القتال لأجل الخليفة والمسلمين ; وقيل لأن نور الدين محمود بن زنكي ، وهو أخو قطب الدين صاحب الموصل الأكبر ، أرسل إلى زين الدين يلومه على قتال الخليفة ، ففتر وأقصر .

( ولم تزل الحرب في أكثر الأيام ) ، وعمل السلطان محمد أربعمائة سلم ليصعد الرجال فيها إلى السور . وزحفوا ، وقاتلوا ، ففتح أهل بغداد أبواب البلد وقالوا : أي حاجة بكم إلى السلاليم ؟ هذه الأبواب مفتحة فادخلوا منها ; فلم يقدروا على أن يقربوها . فبينما الأمر على ذلك إذ وصل الخبر إلى السلطان محمد أن أخاه ملكشاه وإيلدكز صاحب بلاد أران ، ومعه الملك أرسلان ابن الملك طغرل بن محمد ، وهو ابن امرأة إيلدكز ، قد دخلوا همذان واستولوا عليها ، وأخذوا أهل الأمراء الذين مع محمد شاه وأموالهم ، فلما سمع محمد شاه ذلك جد في القتال لعله يبلغ غرضا ، فلم يقدر على شيء ورحل عنها نحو همذان في الرابع والعشرين من ربيع الأول سنة اثنين وخمسين وخمسمائة .

وعاد زين الدين إلى الموصل ، وتفرق ذلك الجمع على عزم العود إذا فرغ محمد شاه من إصلاح بلاده ، فلم يعودوا يجتمعون ; وفي كثرة حروبهم لم يقتل بينهم إلا نفر يسير ، وإنما الجراح كانت كثيرة ، ولما ساروا نهبوا بعقوبا وغيرها من طريق خراسان .

[ ص: 234 ] ولما رحل العسكر من بغداد أصاب أهلها أمراض شديدة حادة ، وموت كثير للشدة التي مرت بهم ; وأما ملكشاه وإيلدكز ومن معهما فإنهم ساروا من همذان إلى الري ، فخرج إليهم إينانج شحنتها وقاتلهم فهزموه ، فأنفذ السلطان محمد الأمير سقمس بن قيماز الحرامي في عسكر نجدة لإينانج ، فسار سقمس ، وكان إيلدكز وملكشاه ومن معهما قد عادوا من الري يريدون محاصرة الخليفة ، فلقيهم سقمس وقاتلهم ، فهزموه ونهبوا عسكره وأثقالهم ، فاحتاج السلطان محمد إلى الإسراع ، فسار ، فلما بلغ حلوان بلغه أن إيلدكز بالدينور ، وأتاه رسول من نائبه إينانج أنه دخل همذان ، وأعاد الخطبة له فيها ، فقويت نفسه وهرب شملة ، صاحب خوزستان إلى بلاده ، وتفرق أكثر جمع إيلدكز وملكشاه ، وبقيا في خمسة آلاف فارس ، فعادا إلى بلادهما شبه الهارب .

ولما رحل محمد شاه إلى همذان أراد التجهز لقصد بلاد إيلدكز ، فابتدأ به مرض السل ، وبقي به إلى أن مات .

التالي السابق


الخدمات العلمية