ذكر 
وفاة  جمال الدين الوزير  وشيء من سيرته 
في هذه السنة توفي  
جمال الدين أبو جعفر محمد بن علي بن أبي منصور الأصفهاني  ، وزير  
قطب الدين  ، صاحب 
الموصل  ، في شعبان مقبوضا ، وكان قد قبض عليه سنة ثمان وخمسين ، فبقي في الحبس نحو سنة . 
حكى لي إنسان صوفي يقال له  
أبو القاسم  كان مختصا بخدمته في الحبس ، قال : لم يزل مشغولا في محبسه بأمر آخرته ، وكان يقول : كنت أخشى أن أنقل من الدست إلى القبر ، فلما مرض قال لي في بعض الأيام : يا  
أبا القاسم     ! إذا جاء طائر أبيض إلى الدار ، فعرفني . قال : فقلت في نفسي قد اختلط عقله ، فلما كان الغد أكثر السؤال عنه ، وإذا طائر أبيض لم أر مثله قد سقط ، فقلت : جاء الطائر ، فاستبشر ، ثم قال : جاء الحق ، وأقبل على الشهادة وذكر الله تعالى ، إلى أن توفي ، فلما توفي طار ذلك الطائر ، فعلمت أنه رأى شيئا في معناه .  
[ ص: 313 ] ودفن 
بالموصل  عند  
فتح الكرامي  ، رحمة الله عليهما ، نحو سنة ، ثم نقل إلى 
المدينة  ، فدفن بالقرب من حرم النبي ، صلى الله عليه وسلم ، في رباط بناه لنفسه هناك ، وقال  
لأبي القاسم     : بيني وبين  
 nindex.php?page=showalam&ids=16184أسد الدين شيركوه  عهد ، من مات منا قبل صاحبه حمله إلى 
المدينة  ، فدفنه بها في التربة التي عملها ، فإذا أنا مت فامض إليه وذكره ، فلما توفي سار  
أبو القاسم  إلى  
شيركوه  في المعنى ، فقال له  
شيركوه     : كم تريد ؟ فقال : أريد أجرة جمل يحمله وجمل يحملني وزادي ، فانتهره ، وقال : مثل  
جمال الدين  يحمل هكذا إلى 
مكة  ، وأعطاه مالا صالحا ; ليحمل معه جماعة يحجون عن  
جمال الدين  ، وجماعة يقرءون عليه بين يدي تابوته إذا حمل ، وإذا نزل عن الجمل ، وإذا وصل إلى مدينة يدخل أولئك القراء ينادون للصلاة عليه ، فيصلى عليه في كل بلدة يجتاز بها ، وأعطاه أيضا مالا للصدقة عنه ، فصلي عليه في 
تكريت  ، 
وبغداد  ، 
والحلة  ، 
وفيد  ، 
ومكة  ، 
والمدينة  ، وكان يجتمع له في كل بلد من الخلق ما لا يحصى ، ولما أرادوا الصلاة عليه بالحلة صعد شاب على موضع مرتفع ، وأنشد بأعلى صوته : 
سرى نعشه فوق الرقاب وطالما سرى جوده فوق الركاب ونائله     يمر على الوادي فتثني رماله 
عليه وبالنادي فتثني أرامله 
فلم نر باكيا أكثر من ذلك اليوم ، فطافوا به حول 
الكعبة  ، وصلوا عليه 
بالحرم الشريف  ، وبين قبره وقبر النبي ، صلى الله عليه وسلم ، نحو خمسة عشر ذراعا . 
وأما سيرته فكان ، رحمه الله ، أسخى الناس ، وأكثرهم بذلا للمال ، رحيما بالخلق ، متعطفا عليهم ، عادلا فيهم ، فمن أعماله الحسنة : أنه جدد بناء 
مسجد الخيف   [ ص: 314 ] بمنى  ، وغرم عليه أموالا جسيمة ، 
وبنى الحجر  بجانب 
الكعبة  ، وزخرف 
الكعبة  وذهبها ، وعملها بالرخام ، ولما أراد ذلك أرسل إلى  
 nindex.php?page=showalam&ids=15299المقتفي لأمر الله  هدية جليلة ، وطلب منه ذلك ، وأرسل إلى  
الأمير عيسى  أمير 
مكة  هدية كثيرة ، وخلعا سنية ، منها عمامة مشتراها ثلاثمائة دينار ، حتى مكنه من ذلك . 
وعمر أيضا المسجد الذي على 
جبل عرفات  والدرج التي يصعد فيها إليه ، وكان الناس يلقون شدة في صعودهم ، وعمل  
بعرفات  أيضا مصانع للماء ، وأجرى الماء إليها من نعمان في طرق معمولة تحت الأرض ، فخرج عليها مال كثير . وكان يجري الماء في المصانع كل سنة أيام عرفات ، وبنى سورا على 
مدينة النبي  ، صلى الله عليه وسلم ، وعلى 
فيد  ، وبنى لها أيضا فصيلا . 
وكان يخرج على باب داره ، كل يوم ، للصعاليك والفقراء مائة دينار أميري ، هذا سوى الإدرارات والتعهدات للأئمة والصالحين وأرباب البيوتات . 
ومن أبنيته العجيبة التي لم ير الناس مثلها 
الجسر الذي بناه على دجلة  عند 
جزيرة ابن عمر  بالحجر المنحوت والحديد والرصاص والكلس ، فقبض قبل أن يفرغ ، وبنى عندها أيضا جسرا كذلك على النهر المعروف 
بالإرباد  ، 
وبنى الربط  ، وقصده الناس من أقطار الأرض ، ويكفيه أن  
ابن الخجندي  ، رئيس أصحاب الشافعي 
بأصفهان  ، قصده  
وابن الكافي  قاضي 
همذان  ، فأخرج عليهما مالا عظيما ، وكانت صدقاته وصلاته من أقاصي 
خراسان  إلى حدود 
اليمن    . 
وكان يشتري الأسرى كل سنة بعشرة آلاف دينار ، هذا من 
الشام  حسب ، سوى ما يشتري من 
الكرج    . 
حكى لي والدي عنه قال : كثيرا ما كنت أرى  
جمال الدين  ، إذا قدم إليه الطعام ، يأخذ منه ومن الحلوى ويتركه في خبز بين يديه ، فكنت أنا ومن يراه نظن أنه يحمله إلى أم ولده  
علي  ، فاتفق أنه في بعض السنين جاء إلى الجزيرة مع قطب الدين ، وكنت   
[ ص: 315 ] أتولى ديوانها ، وحمل جاريته أم ولده إلى داري ; لتدخل الحمام ، فبقيت في الدار أياما ، فبينما أنا عنده في الخيام وقد أكل الطعام ، فعل كما كان يفعل ، ثم تفرق الناس ، فقمت ، فقال : اقعد ، فقعدت ، فلما خلا المكان قال لي : قد آثرتك اليوم على نفسي ، فإنني في الخيام ما يمكنني أن أفعل ما كنت أفعله ، خذ هذا الخبز ، واحمله أنت في كمك في هذا المنديل ، واترك الحماقة من رأسك ، وعد إلى بيتك ، فإذا رأيت في طريقك فقيرا يقع في نفسك أنه مستحق ، فاقعد أنت بنفسك ، وأطعمه هذا الطعام ، قال : ففعلت ذلك ، وكان معي جمع كثير ، ففرقتهم في الطريق ; لئلا يروني أفعل ذلك ، وبقيت في غلماني ، فرأيت في موضع إنسانا أعمى ، وعنده أولاده وزوجته ، وهم من الفقر في حال شديد ، فنزلت عن دابتي إليهم ، وأخرجت الطعام وأطعمتهم إياه ، وقلت للرجل : تجيء غدا بكرة إلى دار فلان ، أعني داري ، ولم أعرفه نفسي ، فإنني آخذ لك من صدقة  
جمال الدين  شيئا ، ثم ركبت إليه العصر ، فلما رآني قال : ما الذي فعلت في الذي قلت لك ؟ فأخذت أذكر له شيئا يتعلق بدولتهم ، فقال : ليس عن هذا أسألك إنما أسألك عن الطعام الذي سلمته إليك ، فذكرت له الحال ، ففرح ثم قال : بقي أنك لو قلت للرجل يجيء إليك هو وأهله ، فتكسوهم وتعطيهم دنانير ، وتجري لهم كل شهر دينارا . قال : فقلت له : قد قلت للرجل حتى يجيء إلي ، فازداد فرحا ، وفعلت بالرجل ما قال : ولم يزل يصل إليه رسمه حتى قبض . وله من هذا كثير ، فمن ذلك أنه تصدق بثيابه من على بدنه في بعض السنين التي تعذرت الأقوات فيها .