صفحة جزء
[ ص: 122 ] وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمر بقتل ثمانية رجال وأربع نسوة ، فأما الرجال فمنهم عكرمة بن أبي جهل ، كان يشبه أباه في إيذاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعداوته والإنفاق على محاربته ، فلما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة خافه على نفسه ، فهرب إلى اليمن ، وأسلمت أمرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام ، فاستأمنت له ، وخرجت في طلبه ومعها غلام لها رومي ، فراودها عن نفسها ، فأطمعته ولم تمكنه ، حتى أتت حيا من العرب فاستعانتهم عليه ، فأوثقوه ، وأدركت عكرمة وهو يريد ركوب البحر فقالت : جئتك من عند أوصل الناس ، وأحلمهم ، وأكرمهم ، وقد آمنك ، فرجع ، وأخبرته خبر الرومي ، فقتله قبل أن يسلم . فلما قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سر به ، فأسلم وسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستغفر له ، فاستغفر .

ومنهم صفوان بن أمية بن خلف ، وكان أيضا شديدا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فهرب خوفا منه إلى جدة ، فقال عمير بن وهب الجمحي : يا رسول الله ، إن صفوان سيد قومي ، وقد خرج هاربا منك فآمنه . قال : هو آمن ، وأعطاه عمامته التي دخل بها مكة ليعرف بها أمانه ، فخرج بها عمير فأدركه بجدة ، فأعلمه بأمانه وقال : إنه أحلم الناس وأوصلهم ، وإنه ابن عمك ، وعزه عزك ، وشرفه شرفك . قال : إني أخافه على نفسي . قال : هو أحلم من ذلك . فرجع صفوان وقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم : إن هذا يزعم أنك آمنتني . قال : صدق . قال : اجعلني بالخيار شهرين . قال : أنت فيه أربعة أشهر . فأقام معه كافرا ، وشهد معه حنينا والطائف ، ثم أسلم وحسن إسلامه ، وتوفي بمكة عند خروج الناس إلى البصرة ليوم الجمل .

ومنهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح من بني عامر بن لؤي ، وكان قد أسلم وكتب الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان إذا أملى عليه : عزيز حكيم ، يكتب : عليم حكيم ، وأشباه ذلك ، ثم ارتد وقال لقريش : إني أكتب أحرف محمد في قرآنه حيث شئت ، ودينكم خير من دينه ، فلما كان يوم الفتح فر إلى عثمان بن عفان ، وكان أخاه من الرضاعة ، فغيبه عثمان حتى اطمأن الناس ، ثم أحضره عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطلب له الأمان ، فصمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طويلا ثم آمنه ، فأسلم وعاد ، فلما انصرف قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : لقد صمت ليقتله أحدكم . فقال أحدهم : هلا أومأت إلينا ؟ فقال : [ ص: 123 ] ما كان للنبي أن يقتل بالإشارة ، إن الأنبياء لا يكون لهم خائنة الأعين .

ومنهم عبد الله بن خطل ، وكان قد أسلم ، فأرسله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصدقا ومعه رجل من الأنصار وغلام له رومي قد أسلم ، فكان الرومي يخدمه ويصنع الطعام ، فنسي يوما أن يصنع له طعاما ، فقتله وارتد ، وكان له قينتان تغنيان بهجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقتله سعيد بن حريث المخزومي ، أخو عمرو بن حريث ، وأبو برزة الأسلمي .

ومنهم الحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد بن قصي ، وكان يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة ، وينشد الهجاء فيه ، فلما كان يوم الفتح هرب من بيته ، فلقيه علي بن أبي طالب ، فقتله .

ومنهم مقيس بن صبابة ، وإنما أمر بقتله لأنه قتل الأنصاري الذي قتل أخاه هشاما خطأ وارتد ، فلما انهزم أهل مكة يوم الفتح اختفى بمكان هو وجماعة ، وشربوا الخمر ، فعلم به نميلة بن عبد الله الكناني ، فأتاه فضربه بالسيف حتى قتله .

ومنهم عبد الله بن الزبعرى السهمي ، وكان يهجو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة ويعظم القول فيه ، فهرب يوم الفتح هو وهبيرة بن أبي وهب المخزومي زوج أم هانئ بنت أبي طالب - إلى نجران ، فأما هبيرة فأقام بها مشركا حتى هلك ، وأما ابن الزبعرى فرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واعتذر ، فقبل عذره ، فقال حين أسلم :


يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت إذ أنا بور     إذ أباري الشيطان في سنن الغي
ومن مال ميله مثبور      [ ص: 124 ] آمن اللحم والعظام بربي
ثم نفسي الشهيد أنت النذير



في أشعار له كثيرة يعتذر فيها .

ومنهم وحشي بن حرب قاتل حمزة ، فهرب يوم الفتح إلى الطائف ، ثم قدم في وفد أهله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : أوحشي ؟ قال : نعم . قال : أخبرني كيف قتلت عمي ؟ فأخبره ، فبكى وقال : غيب وجهك عني . وهو أول من جلد في الخمر ، وأول من لبس المعصفر المصقول في الشام .

وهرب حويطب بن عبد العزى ، فرآه أبو ذر في حائط ، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكانه ، فقال : أوليس قد آمنا الناس إلا من قد أمرنا بقتله ؟ فأخبره بذلك ، فجاء إلى النبي فأسلم . قيل : إنه دخل يوما على مروان بن الحكم وهو على المدينة ، فقال له مروان : يا شيخ ، تأخر إسلامك . فقال : لقد هممت به غير مرة فكان يصدني عنه أبوك .

فأما النساء فمنهن هند بنت عتبة ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتلها لما فعلت بحمزة ، ولما كانت تؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة ، فجاءت إليه مع النساء متخفية فأسلمت ، وكسرت كل صنم في بيتها وقالت : لقد كنا منكم في غرور ، وأهدت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جديين ، واعتذرت من قلة ولادة غنمها ، فدعا لها بالبركة في غنمها فكثرت ، فكانت تهب وتقول : هذا من بركة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالحمد لله الذي هدانا للإسلام .

ومنهن سارة ، وهي مولاة عمرو بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، وهي التي حملت كتاب حاطب بن أبي بلتعة في قول بعضهم ، وكانت قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلمة فوصلها ، فعادت إلى مكة مرتدة ، فأمر بقتلها ، فقتلها علي بن أبي طالب .

ومنهن قينتا عبد الله بن خطل ، وكانتا تغنيان بهجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر بقتلهما ، فقتلت إحداهما واسمها قريبة ، وفرت الأخرى وتنكرت وجاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 125 ] فأسلمت ، وبقيت إلى خلافة عمر بن الخطاب ، فأوطأها رجل فرسه خطأ فماتت ، وقيل : بقيت إلى خلافة عثمان ، فكسر رجل ضلعا من أضلاعها خطأ فماتت ، فأغرمه عثمان ديتها .

ولما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة كانت عليه عمامة سوداء ، فوقف على باب الكعبة وقال : لا إله إلا الله وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ألا كل دم أو مأثرة أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين ، إلا سدانة البيت ، وسقاية الحج . ثم قال : يا معشر قريش ، ما ترون أني فاعل بكم ؟ قالوا : خيرا ، أخ كريم ، وابن أخ كريم . قال : اذهبوا ، فأنتم الطلقاء . فعفا عنهم ، وكان الله قد أمكنه منهم ، وكانوا له فيئا ، فلذلك سمي أهل مكة الطلقاء . وطاف بالكعبة سبعا ، ودخلها وصلى فيها ، ورأى فيها صور الأنبياء ، فأمر بها فمحيت ، وكان على الكعبة ثلاثمائة وستون صنما ، وكان بيده قضيب ، فكان يشير به إلى الأصنام وهو يقرأ : وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا فلا يشير إلى صنم منها إلا سقط لوجهه . وقيل : بل أمر بها وخدمت وكسرت .

ثم جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للبيعة على الصفا وعمر بن الخطاب تحته ، واجتمع الناس لبيعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام ، فكان يبايعهم على السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا ، فكانت هذه بيعة الرجال .

وأما بيعة النساء ، فإنه لما فرغ من الرجال بايع النساء ، فأتاه منهن نساء من نساء قريش ، منهن أم هانئ بنت أبي طالب ، وأم حبيب بنت العاص بن أمية ، وكانت عند عمرو بن عبد ود العامري ، وأروى بنت أبي العيص عمة عتاب بن أسيد ، وأختها عاتكة بنت أبي العيص ، وكانت عند المطلب بن أبي وداعة السهمي ، وأمه بنت عفان بن أبي العاص أخت عثمان ، وكانت عند سعد حليف بني مخزوم ، وهند بنت عتبة ، وكانت عند أبي سفيان ، ويسيرة بنت صفوان بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ، وأم حكيم بنت [ ص: 126 ] الحارث بن هشام ، وكانت عند عكرمة بن أبي جهل ، وفاختة بنت الوليد بن المغيرة أخت خالد ، وكانت عند صفوان بن أمية بن خلف ، وريطة بنت الحجاج ، وكانت عند عمرو بن العاص في غيرهن ، وكانت هند متنكرة لصنيعها بحمزة ، فهي تخاف أن تؤخذ به ، وقال لهن : تبايعنني على أن لا تشركن بالله شيئا . قالت هند : إنك والله لتأخذ علينا ما لا تأخذه على الرجال ، فسنؤتيكه . قال : ولا تسرقن . قالت : والله إن كنت لأصيب من مال أبي سفيان الهنة والهنة . فقال أبو سفيان ، وكان حاضرا : أما ما مضى فأنت منه في حل . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : أهند ؟ قالت أنا هند فاعف عما سلف ، عفا الله عنك . قال ولا تزنين . قالت : وهل تزني الحرة ؟ قال : ولا تقتلن أولادكن . قالت : ربيناهم صغارا ، وقتلتهم يوم بدر كبارا ، فأنت وهم أعلم . فضحك عمر . قال : ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن . قالت : والله إن إتيان البهتان لقبيح ، ولبعض التجاوز أمثل . قال : ولا تعصينني في معروف . قالت ما جلسنا هذا المجلس ونحن نريد أن نعصيك . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر : بايعهن . واستغفر لهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يمس النساء ، ولا يصافح امرأة ، ولا تمسه امرأة إلا امرأة أحلها الله له ، أو ذات محرم منه .

ولما جاء وقت الظهر أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالا أن يؤذن على ظهر الكعبة وقريش فوق الجبال ، فمنهم من يطلب الأمان ، ومنهم من قد أمن ، فلما أذن وقال : أشهد أن محمدا رسول الله ، قالت جويرة بنت أبي جهل : لقد أكرم الله أبي حين لم يشهد نهيق بلال فوق الكعبة . وقيل : إنها قالت : لقد رفع الله ذكر محمد ، وأما نحن فسنصلي ، ولكنا لا نحب من قتل الأحبة .

وقال خالد بن أسد ، أخو عثمان بن أسد : لقد أكرم الله أبي ، فلم ير هذا اليوم .

وقال الحارث بن هشام : ليتني مت قبل هذا اليوم .

وقال جماعة نحو هذا القول . ثم أسلموا وحسن إسلامهم ، ورضي الله عنهم .

( وأما الأسماء المشكلة ، فحاطب بن أبي بلتعة بالحاء والطاء المهملتين ، والباء الموحدة ، وبلتعة بالباء الموحدة ، وبعد اللام تاء مثناة من فوقها . وعيينة بن حصن [ ص: 127 ] بضم العين المهملة ، وياءين مثناتين من تحت ، ثم نون ، تصغير عين ، وبديل بن ورقاء بضم الباء الموحدة . وعتاب بالتاء فوقها نقطتان ، وآخره باء موحدة . وأسيد بفتح الهمزة ، وكسر السين ) .

وقول أم سلمة : ابن عمك وابن عمتك ، فتعني بابن عمه أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وابن عمته عبد الله بن أبي أمية ، وهو أخوها لأبيها ، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب . وقوله : قال في مكة ما قال : فإنه قال بمكة : لن نؤمن لك حتى ترقى في السماء ، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه . وقد غلط هنا بعض العلماء الكبار فقال : معنى قول أم سلمة : ابن عمتك ، أن جدة النبي أم عبد الله كانت مخزومية ، وعبد الله بن أبي أمية مخزومي ، فعلى هذا يكون ابن خالته لا ابن عمته ، والصواب ما ذكرناه .

( وحبيش بن خالد بضم الحاء المهملة ، وبالباء الموحدة ، ثم بالياء المثناة من تحت ، وآخره شين معجمة . ومقيس بن صبابة بكسر الميم ، وسكون القاف ، وبالياء المثناة من تحت المفتوحة ، وآخره سين مهملة . وصبابة بضم الصاد المهملة ، وباءين موحدتين بينهما ألف . خطم الجبل روي بالخاء المعجمة ، وبالحاء المهملة ، فأما بالخاء المعجمة فهو الأنف الخارج من الجبل ، وأما بالحاء المهملة فهو الموضع الذي ثلم منه وقطع ، فبقي منقطعا ، وقد روي حطم الخيل بالحاء المهملة ، والخيل هذه هي التي تركب ، يعني أنه يحبسه في الموضع الضيق الذي يحطم الخيل فيه بعضها بعضا لضيقه ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية