صفحة جزء
ذكر خروج المركيس إلى صور

لما انهزم القمص صاحب طرابلس من حطين إلى مدينة صور أقام بها وهي أعظم بلاد الساحل حصانة ، وأشدها امتناعا على من رامها ، فلما رأى السلطان قد ملك تبنين وصيدا وبيروت ، خاف أن يقصد صلاح الدين صور وهي فارغة ممن يقاتل فيها ويحميها ويمنعها فلا يقوى على حفظها ، وتركها وسار إلى مدينة طرابلس .

فبقيت صور شاغرة لا مانع لها ولا عاصم من المسلمين ، فلو بدأ بها صلاح الدين قبل تبنين وغيرها لأخذها بغير مشقة ، لكنه استعظمها لحصانتها فأراد أن يفرغ باله مما يجاورها من نواحيها ليسهل أخذها ، فكان ذلك سبب حفظها وكان أمر الله قدرا مقدورا .

واتفق أن إنسانا من الفرنج الذين داخل البحر يقال له المركيس ، لعنه الله ، خرج في البحر بمال كثير للزيادة والتجارة ، ولم يشعر بما كان من الفرنج فأرسى بعكا ، وقد رابه ما رأى من ترك عوائد الفرنج عند وصول المراكب من الفرنج ، وضرب الأجراس وغير ذلك ، وما رأى أيضا من زي أهل البلد ، فوقف ولم يدر ما الخبر ، وكانت الريح قد ركدت .

فأرسل الملك الأفضل إليه بعض أصحابه في سفينة يبصر من هو وما يريد ، فأتاه القاصد فسأله المركيس عن الأخبار لما أنكره ، فأخبره بكسرة [ ص: 32 ] الفرنج وأخذ عكا وغيرها ، وأعلمه أن صور بيد الفرنج وعسقلان وغيرها ، وحكى الأمر له على وجهه فلم يمكنه الحركة لعدم الريح ، فرد الرسول يطلب الأمان ليدخل البلد بما معه من متاع ومال ، فأجيب إلى ذلك .

فردده مرارا كل مرة يطلب شيئا لم يطلبه في المرة الأولى ، وهو يفعل ذلك انتظارا لهبوب الهواء ليسير به ، فبينما هو في مراجعاته إذ هبت الريح فسار نحو صور ، وسير الملك الأفضل الشواني في طلبه فلم يدركوه .

فأتى صور وقد اجتمع بها من الفرنج خلق كثير لأن صلاح الدين كان كلما فتح مدينة عكا وبيروت وغيرهما مما ذكرنا أعطى أهلها الأمان ، فساروا كلهم إلى صور ، وكثر الجمع بها إلا أنهم ليس لهم رأس يجمعهم ، ولا مقدم يقاتل بهم ، وليسوا أهل الحرب ، وهم عازمون على مراسلة صلاح الدين ، وطلب الأمان وتسليم البلد إليه .

فأتاهم المركيس وهم على ذلك العزم ، فردهم عنه وقوى نفوسهم وضمن لهم حفظ المدينة وبذل ما معه من الأموال وشرط عليهم أن تكون المدينة وأعمالها له دون غيره ، فأجابوه إلى ذلك فأخذ أيمانهم عليه عندهم ودبر أحوالهم ، وكان من شياطين الإنس حسن التدبير والحفظ ، وله شجاعة عظيمة ، وشرع في تحصينها فجدد حفر خنادقها وعمل أسوارها ، وزاد في حصانتها واتفق من بها على الحفظ والقتال دونها .

التالي السابق


الخدمات العلمية