صفحة جزء
[ ص: 39 ] ذكر رحيل صلاح الدين إلى صور ومحاصرتها .

لما فتح صلاح الدين البيت المقدس أقام بظاهره إلى الخامس والعشرين من شعبان يرتب أمور البلد وأحواله ، وتقدم بعمل الربط والمدارس ، فجعل دار الاسبتار مدرسة للشافعية ، وهي في غاية ما يكون من الحسن .

فلما فرغ من أمر البلد سار إلى مدينة صور ، وكانت قد اجتمع فيها من الفرنج عالم كثير ، وقد صار المركيس صاحبها والحاكم فيها ، وقد ساسهم أحسن سياسة ، وبالغ في تحصين البلد .

ووصل صلاح الدين إلى عكا ، وأقام بها أياما ، فلما سمع المركيس بوصوله إليها جد في عمل سور صور وخنادقها وتعميقها ، ووصلها من البحر إلى البحر من الجانب الآخر ، فصارت المدينة كالجزيرة في وسط الماء لا يمكن الوصول إليها ولا الدنو منها .

ثم رحل صلاح الدين من عكا ، فوصل إلى صور تاسع شهر رمضان ، فنزل على نهر قريب [ من ] البلد بحيث يراه ، حتى اجتمع الناس وتلاحقوا ، وسار في الثاني والعشرين من رمضان .

فنزل على تل يقارب سور البلد ، بحيث يرى القتال ، وقسم القتال على العسكر كل جمع منهم له وقت معلوم يقاتلون فيه ، بحيث يتصل القتال على أهل البلد ، على أن الموضع الذي يقاتلون فيه قريب المسافة ، يكفيه الجماعة اليسيرة من أهل البلد لحفظه ، وعليه الخنادق التي قد وصلت من البحر إلى البحر ، فلا يكاد الطير يطير عليها ، فإن المدينة كالكف في البحر ، والساعد متصل بالبر والبحر من جانبي الساعد ، والقتال إنما هو في الساعد ، فزحف المسلمون مرة بالمجانيق ، والعرادات ، والجروخ ، والدبابات .

وكان أهل صلاح الدين يتناوبون القتال مثل : ولده الأفضل ، وولده الظاهر غازي ، وأخيه العادل بن أيوب ، وابن أخيه تقي الدين ، وكذلك سائر الأمراء .

وكان للفرنج شوان وحراقات يركبون فيها في البحر ، ويقفون من جانبي الموضع الذي يقاتل المسلمون منه أهل البلد ، فيرمون المسلمين من جانبهم بالجروخ ، ويقاتلونهم . وكان ذلك يعظم عليهم ، لأن أهل البلد يقاتلونهم من بين أيديهم ، وأصحاب الشواني يقاتلونهم من جانبيهم ، فكانت سهامهم تنفذ من أحد الجانبين إلى الجانب الآخر لضيق الموضع ، فكثرت الجراحات في المسلمين والقتل .

ولم يتمكنوا [ ص: 40 ] من الدنو إلى البلد ، فأرسل صلاح الدين إلى الشواني التي جاءته من مصر ، وهي عشر قطع ، وكانت بعكا ، فأحضرها برجالها ومقاتلتها وعدتها ، وكانت في البحر تمنع شواني أهل صور من الخروج إلى قتال المسلمين ، فتمكن المسلمون حينئذ من القرب من البلد ، ومن قتاله ، فقاتلوه برا وبحرا وضايقوه حتى كادوا يظفرون .

فجاءت الأقدار بما لم يكن في الحساب ، وذلك أن خمس قطع من شواني المسلمين باتت ، في بعض تلك الليالي ، مقابل ميناء صور ليمنعوا من الخروج منه والدخول إليه ، فباتوا ليلتهم يحرسون ، وكان مقدمهم عبد السلام المغربي الموصوف بالحذق في صناعته .

فلما كان وقت السحر أمنوا فناموا ، فما شعروا إلا بشواني الفرنج قد نازلتهم وضايقتهم ، فأوقعت بهم ، فقتلوا من أرادوا قتله ، وأخذوا الباقين بمراكبهم ، وأدخلوا ميناء صور ، والمسلمون في البر ينظرون إليهم ، ورمى جماعة من المسلمين أنفسهم من الشواني في البحر ، فمنهم من سبح فنجا ، ومنهم من غرق .

وتقدم السلطان إلى الشواني الباقية بالمسير إلى بيروت لعدم انتفاعه بها لقلتها ، فسارت ، فتبعها شواني الفرنج ، فحين رأى من في شواني المسلمين الفرنج مجدين في طلبهم ألقوا نفوسهم في شوانيهم إلى البر فنجوا وتركوها ، فأخذها صلاح الدين ، ونقضها وعاد إلى مقاتلة صور في البر ، وكان ذلك قليل الجدوى لضيق المجال .

وفي بعض الأيام خرج الفرنج فقاتلوا المسلمين من وراء خنادقهم ، فاشتد القتال بين الفريقين ، ودام إلى آخر النهار ، كان خروجهم قبل العصر ، وأسر منهم فارس كبير مشهور ، بعد أن كثر القتال والقتل عليه من الفريقين ، لما سقط ، فلما أسر قتل ، وبقوا كذلك عدة أيام .

التالي السابق


الخدمات العلمية