صفحة جزء
ذكر فتح برزية

لما دخل صلاح الدين من قلعة الشغر سار إلى قلعة برزية ، وكانت قد وصفت [ ص: 54 ] له ، وهي تقابل حصن أفامية ، وتناصفها في أعمالها وبينهما بحيرة تجتمع من ماء العاصي ، وعيون تتفجر من جبل برزية وغيره ، وكان أهلها أضر شيء على المسلمين ، يقطعون الطريق ، ويبالغون في الأذى .

فلما وصل إليها نزل شرقيها في الرابع والعشرين من جمادى الآخرة ، ثم ركب من الغد وطاف عليها لينظر موضعا يقاتلها منه . فلم يجده إلا من جهة الغرب فنصب له هناك [ خيمة ] صغيرة ونزل فيها ومعه بعض العسكر جريدة لضيق المواضع .

وهذه القلعة لا يمكن أن تقاتل من جهة الشمال والجنوب البتة ، فإنها لا يقدر أحد أن يصعد جبلها من هاتين الجهتين ، وأما الجانب الشرقي فيمكن الصعود منه لكن لغير مقاتل ، لعلوه وصعوبته ، وأما جهة الغرب فإن الوادي المطيف بجبلها قد ارتفع هناك ارتفاعا كثيرا ، حتى قارب القلعة ، بحيث يصل منه حجر المنجنيق والسهام فنزله المسلمون ونصبوا عليه المجانيق ، ونصب أهل القلعة عليها منجنيقا بطلها .

ورأيت أنا من رأس جبل عال يشرف على القلعة ، لكنه لا يصل منه شيء إليها ، امرأة ترمي من القلعة عن المنجنيق ، وهي التي بطلت منجنيق المسلمين ، فلما رأى صلاح الدين أن المنجنيق لا ينتفعون به ، عزم على الزحف ، ومكاثرة أهلها بجموعه .

فقسم عسكره ثلاثة أقسام : يزحف قسم ، فإذا تعبوا وكلوا عادوا وزحف القسم الثاني ، فإذا تعبوا وضجروا عادوا وزحف القسم الثالث ، ثم يدور الدور مرة بعد أخرى حتى يتعب الفرنج وينصبوا ، فإنهم لم يكن عندهم من الكثرة ما يتقسمون كذلك ، فإذا تعبوا وأعيوا سلموا القلعة .

فلما كان الغد ، وهو السابع والعشرون من جمادى الآخرة ، تقدم أحد الأقسام ، وكان المقدم عليهم عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي ، صاحب سنجار ، وزحفوا ، وخرج الفرنج من حصنهم ، فقاتلهم على فصيلهم ، ورماهم المسلمون بالسهام من وراء الجفتيات والجنويات والطارقيات ، ومشوا إليهم حتى قربوا إلى الجبل .

فلما قاربوا الفرنج عجزوا عن الدنو منهم لخشونة المرتقى وتسلط الفرنج عليهم ، لعلو مكانهم ، بالنشاب والحجارة ، ‌‌فإنهم كانوا يلقون الحجارة الكبار فتتدحرج إلى أسفل الجبل ، فلا يقوم لها شيء .

[ ص: 55 ] فلما تعب هذا القسم انحدروا ، وصعد القسم الثاني ، وكانوا جلوسا ينتظرونهم ، وهم حلقة صلاح الدين الخاص ، فقاتلوا قتالا شديدا ، وكان الزمان حرا شديدا ، فاشتد الكرب على الناس ، وصلاح الدين في سلاحه يطوف عليهم ويحرضهم وكان تقي الدين ابن أخيه كذلك ، فقاتلوهم إلى قريب الظهر ثم تعبوا ، ورجعوا .

فلما رآهم صلاح الدين قد عادوا تقدم إليهم وبيده جماق يردهم ، وصاح في القسم الثالث ، وهم جلوس ينتظرون نوبتهم ، فوثبوا ملبين ، وساعدوا إخوانهم وزحفوا معهم ، فجاء الفرنج ما لا قبل لهم به .

وكان أصحاب عماد الدين قد استراحوا فقاموا أيضا معهم ، فحينئذ اشتد الأمر على الفرنج وبلغت القلوب الحناجر ، وكانوا قد اشتد تعبهم ونصبهم ، فظهر عجزهم عن القتال وضعفهم عن حمل السلاح لشدة الحر والقتال ، فخالطهم المسلمون فعاد الفرنج يدخلون الحصن ، فدخل المسلمون معهم .

وكان طائفة قليلة في الخيام شرقي الحصن فرأوا الفرنج قد أهملوا ذلك الجانب ، لأنهم لا يرون فيه مقاتلا ، وليكثروا في الجهة التي فيها صلاح الدين فصعدت تلك الطائفة من العسكر فلم يمنعهم مانع .

فصعدوا أيضا الحصن من الجهة الأخرى فالتقوا مع المسلمين الداخلين مع الفرنج فملكوا الحصن عنوة وقهرا ودخل الفرنج القلة التي للحصن ، وأحاط بها المسلمون وأرادوا نقبها .

وكان الفرنج قد رفعوا من عندهم من أسرى المسلمين إلى سطح القلة ، وأرجلهم في القيود والخشب المنقوب ، فلما سمعوا تكبير المسلمين في نواحي القلعة كبروا في سطح القلة ، وظن الفرنج أن المسلمين قد صعدوا على السطح فاستسلموا ، وألقوا بأيديهم إلى الأسر ، فملكها المسلمون عنوة ، ونهبوا ما فيها ، وأسروا وسبوا من فيها ، وأخذوا صاحبها وأهله ، وأمست خالية لا ديار بها ، وألقى المسلمون النار في بعض بيوتهم فاحترقت .

ومن أعجب ما يحكى من السلامة أنني رأيت رجلا من المسلمين على هذا الحصن قد جاء من طائفة من المؤمنين شمالي القلعة إلى طائفة أخرى من المسلمين جنوبي القلعة . وهو يعدو في الجبل عرضا ، فألقيت عليه الحجارة ، وجاء حجر كبير لو ناله لبعجه .

فنزل عليه ، فناداه الناس يحذرونه ، فالتفت ينظر ما الخبر . فسقط على وجهه من عثرة ، فاسترجع الناس ، وجاء الحجر إليه ، فلما قاربه وهو منبطح [ ص: 56 ] على وجهه لقيه حجر آخر ثابت في الأرض فوق الرجل ، فضربه المنحدر فارتفع عن الأرض ، وجاز الرجل ثم عاد إلى الأرض من جانبه الآخر لم ينله منه أذى ولا ضرر ، وقام يعدو حتى لحق بأصحابه فكان سقوطه سبب نجاته فتعست أم الجبان .

وأما صاحب برزية ، فإنه أسر هو وامرأته وأولاده ، ومنهم بنت له معها زوجها ، فتفرقهم العسكر ، فأرسل صلاح الدين في الوقت وبحث عنهم واشتراهم ، وجمع شمل بعضهم ببعض ، فلما قارب أنطاكية أطلقهم وسيرهم إليها .

وكانت امرأة صاحب برزية أخت امرأة بيمند صاحب أنطاكية ، وكانت تراسل صلاح الدين وتهاديه ، وتعلمه كثيرا عن الأحوال التي تؤثر ، فأطلق هؤلاء لأجلها .

التالي السابق


الخدمات العلمية