صفحة جزء
ذكر وفاة قلج أرسلان

في هذه السنة ، منتصف شعبان ، توفي الملك قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش بن سلجوق السلجوقي بمدينة قونية ، وكان له من البلاد قونية وأعمالها ، وأقصرا ، وسيواس ، وملطية ، وغير ذلك من البلاد .

وكانت مدة ملكه نحو تسع وعشرين سنة ، وكان ذا سياسة حسنة ، وهيبة عظيمة ، وعدل وافر ، وغزوات [ ص: 113 ] كثيرة إلى بلاد الروم ، فلما كبر فرق بلاده على أولاده ، فاستضعفوه ، ولم يلتفتوا إليه ، وحجر عليه ولده قطب الدين .

وكان قلج أرسلان قد استناب في تدبير ملكه رجلا يعرف باختيار الدين حسن ، فلما غلب قطب الدين على الأمر قتل حسنا ، ثم أخذ والده وسار به إلى قيسارية ليأخذها من أخيه الذي سلمها إليه أبوه فحصرها مدة ، فوجد والده قلج أرسلان فرصة فهرب ودخل ، قيسارية وحده .

فلما علم قطب الدين ذلك عاد إلى قونية وأقصرا فملكهما ، ولم يزل قلج أرسلان يتحول من ولد إلى ولد ، وكل منهم يتبرم به ، حتى مضى إلى ولده غياث الدين كيخسرو صاحب مدينة برغلوا ، فلما رآه فرح به وخدمه ، وجمع العساكر .

وسار هو معه إلى قونية فملكها ، وسار إلى أقصرا ومعه والده قلج أرسلان ، فحصرها ، فمرض أبوه ، فعاد به إلى قونية فتوفي فيها ، ودفن هناك ، وبقي ولده غياث الدين في قونية مالكا لها حتى أخذها منه أخوه ركن الدين سليمان ، على ما نذكره إن شاء الله تعالى .

وقد حدثني بعض من أثق به من أهل العلم بما يحكيه ، وكان قد وصل تلك البلاد بغير هذا ، ونحن نذكره ، قال : إن قلج أرسلان قسم بلاده بين أولاده في حياته .

فسلم دوقاط إلى ركن الدين سليمان ، وسلم قونية إلى ولده كيخسرو غياث الدين ، وسلم أنقرة وهي التي تسمى أنكشورية إلى ولده محيي الدين ، وسلم ملطية إلى ولده معز الدين قيصر شاه وسلم أبلستين إلى ولده مغيث الدين ، وسلم قيسارية إلى ولده نور الدين محمود ، وسلم سيواس وأقصرا إلى ولده قطب الدين ، وسلم نكسار إلى ولد آخر ، وسلم أماسيا إلى ولد أخيه .

هذه أمهات البلاد ، وينضاف إلى كل بلد من هذه ما يجاورها من البلاد الصغار التي ليست مثل هذه ثم إنه ندم على ذلك وأراد أن يجمع الجميع

لولده الأكبر قطب الدين ، وخطب له ابنة صلاح الدين يوسف ، صاحب مصر والشام ، ليقوى به ، فلما [ ص: 114 ] سمع باقي أولاده بذلك امتنعوا عليه ، وخرجوا عن طاعته ، وزال حكمه عنهم ، فسار يتردد بينهم على سبيل الزيارة ، فيقيم عند كل واحد منهم مدة ، وينتقل إلى الآخر ، ثم إنه مضى إلى ولده كيخسرو ، صاحب قونية ، على عادته ، فخرج إليه ، ولقيه ، وقبل الأرض بين يديه ، وسلم قونية إليه ، وتصرف عن أمره .

فقال لكيخسرو : أريد [ أن ] أسير إلى ولدي الملعون محمود ، وهو صاحب قيسارية ، وتجيء أنت معي لآخذها منه ، فتجهز وسار معه ، وحصر محمودا بقيسارية فمرض قلج أرسلان ، وتوفي عليها ، فعاد كيخسرو ، وبقي كل واحد من الأولاد على البلد الذي بيده .

وكان قطب الدين صاحب أقصرا وسيواس ، إذا أراد أن يسير من إحدى المدينتين إلى الأخرى يجعل طريقه على قيسارية ، وبها أخوه نور الدين محمود ، وليست على طريقه إنما كان يقصدها ليظهر المودة لأخيه والمحبة له ، وفى نفسه الغدر ، فكان أخوه محمود يقصده ويجتمع به .

ففي بعض المرات نزل بظاهر البلد على عادته ، وحضر أخوه محمود عنده غير محتاط ، فقتله قطب الدين ، وألقى رأسه إلى أصحابه ، وأراد أخذ البلد فامتنع من به من أصحاب أخيه عليه ، ثم إنهم سلموه إليه على قاعدة استمرت بينهم .

وكان عند محمود أمير كبير ، وكان يحذره من أخيه قطب الدين ( ويخوفه ، فلم يصغ إليه وكان جوادا ) ، كثير الخير والتقدم في الدولة عند نور الدين . فلما قتل قطب الدين أخاه قتل حسنا معه ، وألقاه على الطريق ، فجاء كلب يأكل من لحمه .

فثار الناس وقالوا : لا سمعا ولا طاعة ، هذا رجل مسلم ، وله ها هنا مدرسة ، وتربة ، وصدقات دارة ، وأفعال حسنة ، لا نتركه تأكله الكلاب ، فأمر به فدفن في مدرسته . وبقي أولاد قلج أرسلان على حالهم .

ثم إن قطب [ الدين ] مرض ومات ، فسار أخوه ركن الدين سليمان صاحب دوقاط إلى سيواس ، وهي تجاوره ، فملكها ، ثم سار منها إلى قيسارية وأقصرا ، ثم [ ص: 115 ] بقي مديدة .

وسار إلى قونية وبها أخوه غياث الدين ، فحصره بها وملكها ، ففارقها غياث الدين إلى الشام ، ثم إلى بلد الروم ، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى .

ثم سار بعد ذلك إلى ركن الدين إلى نكسار وأماسيا فملكها ، وسار إلى ملطية سنة سبع وتسعين وخمسمائة ، فملكها ، وفارقها أخوه معز الدين إلى الملك العادل أبي بكر بن أيوب ، وكان معز الدين هذا تزوج ابنة للعادل ، فأقام عنده .

واجتمع لركن الدين ، ملك جميع الإخوة ما عدا أنقرة فإنها منيعة لا يوصل إليها فجعل عليها عسكرا يحصرها صيفا وشتاء ثلاث سنين ، فتسلمها سنة إحدى وستمائة ، ووضع على أخيه الذي كان بها من يقتله إذا فارقها ، فلما سار عنها قتل .

وتوفي ركن الدين في تلك الأيام ، ولم يسمع خبر قتل أخيه بل عاجله الله تعالى لقطع رحمه .

وإنما أوردنا هذه الحادثة ها هنا لنتبع بعضها بعضا ولأني لم أعلم تاريخ كل حادثة منها لأثبتها فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية