صفحة جزء
ذكر رحيل عسكر الملك العادل عن ماردين

في هذه السنة زال الحصار عن ماردين ، ورحل عسكر الملك العادل عنها مع ولده الملك الكامل ، وسبب ذلك أن الملك العادل لما حصر ماردين عظم ذلك على نور الدين صاحب الموصل ، وغيره من ملوك ديار بكر والجزيرة ، وخافوا إن ملكها أن لا يبقي عليهم ، إلا أن العجز عن منعه [ حملهم ] على طاعته ، فلما توفي العزيز ، صاحب مصر ، وملك الأفضل مصر - كما ذكرناه - وبينه وبين العادل اختلاف ، وأرسل أحد عسكر مصر من عنده ، وأرسل إلى نور الدين ، صاحب الموصل وغيره من الملوك يدعوهم إلى موافقته ، فأجابوه إلى ذلك ، فلما رحل الملك العادل عن ماردين إلى دمشق - كما ذكرناه - برز نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود ، صاحب الموصل ، عنها ثاني شعبان ، وسار إلى دنيسر فنزل عليها ، ووافقه ابن عمه قطب الدين محمد بن زنكي بن مودود صاحب سنجار ، وابن عمه الآخر معز الدين سنجر شاه بن [ ص: 164 ] غازي بن مودود صاحب جزيرة ابن عمر ، فاجتمعوا كلهم بدنيسر إلى أن عيدوا عيد الفطر ، ثم ساروا عنها سادس شوال ونزلوا بحرزم ، وتقدم العسكر إلى تحت الجبل ليرتادوا موضعا للنزول .

وكان أهل ماردين قد عدمت الأقوات عندهم ، وكثرت الأمراض فيهم ، حتى إن كثيرا منهم كان لا يطيق القيام ، فلما رأى النظام ، وهو الحاكم في دولة صاحبها ، ذلك أرسل إلى ابن العادل في تسليم القلعة إليه إلى أجل معلوم ذكره على شرط أن يتركهم يدخل إليهم من الميرة ما يقوتهم ، حسب ، فأجابهم إلى ذلك ، وتحالفوا عليه ورفعوا أعلامهم إلى رأس القلعة ، وجعل ولد العادل بباب القلعة أميرا لا يترك شيئا يدخلها من الأطعمة إلا ما يكفيهم يوما بيوم ، فأعطى من بالقلعة ذلك الأمير شيئا ، فمكنهم من إدخال الذخائر الكثيرة .

فبينما هم كذلك إذ أتاهم خبر وصول نور الدين صاحب الموصل ، فقويت نفوسهم ، وعزموا على الامتناع ، فلما تقدم عسكره إلى ذيل جبل ماردين ، قدر الله - تعالى - أن الملك الكامل بن العادل نزل بعسكر من ربض ماردين إلى لقاء نور الدين وقتاله ، ولو أقاموا بالربض لم يمكن نور الدين ولا غيره الصعود إليهم ، ولا إزالتهم ، لكن نزلوا ليقضي الله أمرا كان مفعولا ، فلما أصحروا من الجبل اقتتلوا ، وكان من عجيب الاتفاق أن قطب الدين - صاحب سنجار - قد واعد العسكر العادلي أن ينهزم إذا التقوا ، ولم يعلم بذلك أحدا من العسكر ، فقدر الله - تعالى - أنه لما نزل العسكر العادلي واصطفت العساكر للقتال ألجأت قطب الدين الضرورة بالزحمة إلى أن وقف في سفح شعب جبل ماردين ليس إليه طريق للعسكر العادلي ، ولا يرى الحرب الواقعة بينهم وبين نور الدين ، ففاته ما أراده من الانهزام ، فلما التقى العسكران واقتتلوا ، وحمل ذلك اليوم نور الدين بنفسه ، واصطلى الحرب ، [ فألقى ] الناس أنفسهم بين يديه ، فانهزم العسكر العادلي وصعدوا في الجبل إلى الربض ، وأسر منهم كثير ، فحملوا إلى بين يدي نور الدين ، فأحسن إليهم ، ووعدهم الإطلاق إذا انفصلوا ، ولم يظن أن الملك الكامل ومن معه يرحلون عن ماردين سريعا ، فجاءهم أمر لم يكن في الحساب ، فإن الملك الكامل لما صعد إلى الربض رأى أهل القلعة قد نزلوا إلى الذين جعلهم بالربض من العسكر ، فقاتلوهم ونالوا منهم ونهبوهم ، فألقى الله الرعب في قلوب [ ص: 165 ] الجميع ، فأعملوا رأيهم على مفارقة الربض ليلا ، فرحلوا ليلة الاثنين سابع شوال ، وتركوا كثيرا من أثقالهم ورحالهم وما أعدوه ، فأخذه أهل القلعة ، ولو ثبت العسكر العادلي بمكانه لم يمكن أحدا أن يقرب منهم .

ولما رحلوا نزل صاحب ماردين حسام الدين يولق بن إيلغازي إلى نور الدين ، ثم عاد إلى حصنه ، وعاد أتابك إلى دنيسر ، ورحل عنها إلى رأس عين على عزم قصد حران وحصرها . فأتاه الرسول من الملك الظاهر يطلب الخطبة والسكة وغير ذلك ، فتغيرت نية نور الدين ، وفتر عزمه عن نصرتهم ، فعزم على العود إلى الموصل ، فهو يقدم إلى العرض رجلا ويؤخر أخرى إذ أصابه مرض ، فتحقق عزم العود إلى الموصل ، فعاد إليها ، وأرسل رسولا إلى الملك الأفضل والملك الظاهر يعتذر عن عوده بمرضه ، فوصل الرسول ثاني ذي الحجة إليهم وهم على دمشق .

وكان عود نور الدين من سعادة الملك العادل ، فإنه كان هو وكل من عنده ينتظرون ما يجيء من أخباره . فإن من بحران استسلموا فقدر الله - تعالى - أنه عاد ، فلما عاد جاء الملك الكامل إلى حران ، وكان قد سار عن ماردين إلى ميافارقين ، فلما رجع نور الدين سار الكامل إلى حران ، وسار إلى أبيه بدمشق - على ما ذكرناه - ، فازداد به قوة ، والأفضل ومن معه ضعفا .

التالي السابق


الخدمات العلمية