صفحة جزء
ذكر وفاة غياث الدين ملك الغور وشيء من سيرته

في هذه السنة في جمادى الأولى ، توفي غياث الدين أبو الفتح محمد بن سام الغوري ، صاحب غزنة وبعض خراسان وغيرها ، وأخفيت وفاته ، وكان أخوه شهاب الدين بطوس ، عازما على قصد خوارزم شاه ، فأتاه الخبر بوفاة أخيه ، فسار إلى هراة ، فلما وصل إليها جلس للعزاء بأخيه في رجب ، وأظهرت وفاته حينئذ .

وخلف غياث الدين من الولد ابنا اسمه محمود ، لقب بعد موت أبيه غياث الدين . وسنورد من أخباره كثيرا .

ولما سار شهاب الدين من طوس استخلف بمرو الأمير محمد بن جربك ، فسار إليه جماعة من الأمراء الخوارزمية ، فخرج إليهم محمد ليلا ، وبيتهم ، فلم ينج منهم إلا القليل ، وأنفذ الأسرى والرءوس إلى هراة ، فأمر شهاب الدين بالاستعداد لقصد خوارزم على طريق الرمل ، وجهز خوارزم شاه جيشا وسيرهم مع برفور التركي إلى قتال محمد بن جربك ، فسمع بهم ، فخرج إليهم ، ولقيهم على عشرة فراسخ من مرو ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، قتل بين الفريقين خلق كثير ، وانهزم الغورية ، ودخل محمد بن جربك مرو في عشرة فرسان ، وجاء الخوارزميون فحصروه خمسة عشر يوما ، فضعف عن الحفظ ، فأرسل في طلب الأمان ، فحلفوا له إن خرج إليهم على حكمهم أنهم لا يقتلونه ، فخرج إليهم ، فقتلوه ، وأخذوا كل ما معه .

وسمع شهاب الدين الخبر فعظم عليه ، وترددت الرسل بينه وبين خوارزم شاه ، فلم يستقر الصلح ، وأراد العود إلى غزنة فاستعمل على هراة ابن أخيه ألب غازي ، وفلك الملك علاء الدين محمد بن أبي علي الغوري ( على مدينة فيروزكوه ) ، وجعل إليه حرب خراسان وأمر كل ما يتعلق بالمملكة ، وأتاه محمود ابن أخيه غياث [ ص: 190 ] الدين ، فولاه مدينة بست ، وأسفزار ، وتلك الناحية ، وجعله بمعزل من الملك جميعه ، ولم يحسن الخلافة عليه بعد أبيه ، ولا على غيره من أهله ، فمن جملة فعله أن غياث الدين كانت له زوجة كانت مغنية ، فهويها وتزوجها ، فلما مات غياث الدين قبض عليها وضربها ضربا مبرحا ، وضرب ولدها غياث الدين ، وزوج أختها ، وأخذ أموالهم وأملاكهم وسيرهم إلى بلد الهند ، فكانوا في أقبح صورة ، وكانت قد بنت مدرسة ، ودفنت فيها أباها وأمها وأخاها ، فهدمها ونبش قبور الموتى ، ورمى بعظامهم منها .

وأما سيرة غياث الدين وأخلاقه ; فإنه كان مظفرا منصورا في حروبه ، لم تنهزم له راية قط ، وكان قليل المباشرة للحروب . وإنما كان له دهاء ومكر ، وكان جوادا ، حسن الاعتقاد ، كثير الصدقات والوقوف بخراسان . بنى المساجد والمدارس بخراسان لأصحاب الشافعي ، وبنى الخانكاهات في الطرق . وأسقط المكوس ، ولم يتعرض إلى مال أحد من الناس ، ومن مات [ ولا وارث له تصدق بما يخلفه ، ومن كان من بلد معروف ومات ] ببلده يسلم ماله إلى أهل بلده من التجار ، فإن لم يجد أحدا يسلمه إلى القاضي ، ويختم عليه إلى أن يصل من يأخذه بمقتضى الشرع .

وكان إذا وصل إلى بلد عم إحسانه أهله والفقهاء وأهل الفضل ، يخلع عليهم ، ويفرض لهم الأعطيات كل سنة من خزانته ، ويفرق الأموال في الفقراء ، وكان يراعي كل من وصل إلى حضرته من العلويين والشعراء وغيرهم ، وكان فيه فضل غزير ، وأدب مع حسن خط وبلاغة ، وكان - رحمه الله - ينسخ المصاحف بخطه ويقفها في المدارس التي بناها ، ولم يظهر منه تعصب على مذهب ، ويقول : التعصب في المذاهب من الملك قبيح ، إلا أنه كان شافعي المذهب ، فهو يميل إلى الشافعية من غير أن يطمعهم في غيرهم ، ولا أعطاهم ما ليس لهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية