صفحة جزء
ذكر ملك عماد الدين قلعة كواشى وملك بدر الدين تل يعفر وملك الملك الأشرف سنجار

كواشى هذه من أحصن قلاع الموصل وأعلاها وأمنعها ، وكان الجند الذين بها ، لما رأوا ما فعل أهل العمادية وغيرها من التسليم إلى زنكي وأنهم قد تحكموا في القلاع ، لا يقدر أحد على الحكم عليهم ، أحبوا أن يكونوا كذلك ، فأخرجوا نواب بدر الدين عنهم ، وامتنعوا بها ، وكانت رهائنهم بالموصل ، وهم يظهرون طاعة بدر الدين ، ويبطنون المخالفة ، فترددت الرسل في عودهم إلى الطاعة ، فلم يفعلوا ، وراسلوا زنكي [ ص: 320 ] في المجيء إليهم ، فسار إليهم وتسلم القلعة ، وأقام عندهم ، فروسل مظفر الدين يذكر بالأيمان القريبة العهد ويطلب منه إعادة كواشى ، فلم تقع الإجابة إلى ذلك ، فأرسل حينئذ بدر الدين إلى الملك الأشرف ، وهو بحلب ، يستنجده ، فسار وعبر الفرات إلى حران ، واختلفت عليه الأمور من عدة جهات منعته من سرعة السير .

وسبب هذا الاختلاف أن مظفر الدين كان يراسل الملوك أصحاب الأطراف ليستميلهم ، ويحسن لهم الخروج على الأشرف ، ويخوفهم منه ، إن خلا وجهه ، فأجابه إلى ذلك عز الدين كيكاوس بن كيخسرو بن قلج أرسلان ، صاحب بلاد الروم ، وصاحب آمد ، وحصن كيفا ، وصاحب ماردين ، واتفقوا كلهم على طاعة كيكاوس ، وخطبوا له في بلادهم ، ونحن نذكر ما كان بينه وبين الأشرف عند منبج لما قصد بلاد حلب ، فهو موغر الصدر عليه .

فاتفق أن كيكاوس مات في ذلك الوقت وكفي الأشرف وبدر الدين شره ، ولا جد إلا ما أقعص عنك الرجال ، وكان مظفر الدين قد راسل جماعة من الأمراء الذين مع الأشرف ، واستمالهم ، فأجابوه ، منهم : أحمد بن علي بن المشطوب ، الذي ذكرنا أنه فعل على دمياط ما فعل ، وهو أكبر أمير معه ، ووافقه غيره ، منهم : عز الدين محمد بن بدر الحميدي وغيرهما ، وفارقوا الأشرف ، ونزلوا بدنيسر ، تحت ماردين ، ليجتمعوا مع صاحب آمد ، ويمنعوا الأشرف من العبور إلى الموصل لمساعدة بدر الدين .

فلما اجتمعوا هناك عاد صاحب آمد إلى موافقة الأشرف ، وفارقهم ، واستقر الصلح بينهما ، وسلم إليه الأشرف مدينة حاني ، وجبل جور ، وضمن له أخذ دارا وتسليمها إليه ، فلما فارقهم صاحب آمد انحل أمرهم ، فاضطر بعض أولئك الأمراء إلى العود إلى طاعة الأشرف ، وبقي ابن المشطوب وحده ، فسار إلى نصيبين ليسير إلى إربل ، فخرج إليه شحنة نصيبين فيمن عنده من الجند ، فاقتتلوا ، فانهزم ابن المشطوب ، وتفرق من معه من الجمع ، ومضى منهزما ، فاجتاز بطرف بلد سنجار ، فسير إليه صاحبها فروخ شاه بن زنكي بن مودود بن زنكي عسكرا ، فهزموه وأخذوه أسيرا ، وحملوه إلى سنجار ، وكان صاحبها موافقا للأشرف وبدر الدين .

[ ص: 321 ] فلما صار عنده ابن المشطوب حسن عنده مخالفة الأشرف ، فأجابه إلى ذلك وأطلقه ، فاجتمع معه من يريد الفساد ، فقصدوا البقعا من أعمال الموصل ، ونهبوا فيها عدة قرى ، وعادوا إلى سنجار ، ثم ساروا وهو معهم إلى تل يعفر ، وهي لصاحب سنجار ; ليقصدوا بلد الموصل وينهبوا في تلك الناحية ، فلما سمع بدر الدين بذلك سير إليه عسكرا ، فقاتلوهم ، فمضى منهزما وصعد إلى تل يعفر . واحتمى بها منهم ، ونازلوه وحصروه فيها ، فسار بدر الدين من الموصل إليه يوم الثلاثاء لتسع بقين من ربيع الأول سنة سبع عشرة وستمائة ، وجد في حصره ، وزحف إليها مرة بعد أخرى فملكها سابع عشر ربيع الآخر من هذه السنة ، وأخذ ابن المشطوب معه إلى الموصل فسجنه بها ، ثم أخذه منه الأشرف فسجنه بحران إلى أن توفي في ربيع الآخر سنة تسع عشرة وستمائة ، ولقاه الله عقوبة ما صنع بالمسلمين بدمياط .

وأما الملك الأشرف فإنه لما أطاعه صاحب الحصن وآمد . وتفرق الأمراء عنه كما ذكرناه ، رحل من حران إلى دنيسر ، فنزل عليها واستولى على بلد ماردين ، وشحن عليه ، وأقطعه . ومنع الميرة عن ماردين ، وحضر معه صاحب آمد ، وترددت الرسل بينه وبين صاحب ماردين في الصلح ، فاصطلحوا على أن يأخذ الأشرف رأس عين ، وكان هو قد أقطعها لصاحب ماردين ، ويأخذ منه أيضا ألف دينار ، ويأخذ منه صاحب آمد الموزر ، من بلد شبختان .

فلما تم الصلح سار الأشرف من دنيسر إلى نصيبين يريد الموصل ، فبينما هو في الطريق لقيه رسل صاحب سنجار يبذل تسليمها إليه ، ويطلب العوض عنها مدينة الرقة .

وكان السبب في ذلك أخذ تل يعفر منه ، فانخلع قلبه ، وانضاف إلى ذلك أن ثقاته ونصحاءه خانوه وزادوه رعبا وخوفا ، لأنه تهددهم ، فتغدوا به قبل أن يتعشى بهم ، ولأنه قطع رحمه ، وقتل أخاه الذي ملك سنجار بعد أبيه ; قتله كما نذكره إن [ ص: 322 ] شاء الله ، وملكها ، فلقاه الله سوء فعله ، ولم يمتعه بها ، فلما تيقن رحيل الأشرف تحير في أمره ، فأرسل في التسليم إليه ، فأجابه الأشرف إلى العوض ، وسلم إليه الرقة وتسلم سنجار مستهل جمادى الأولى سنة سبع عشرة وستمائة ، وفارقها صاحبها وإخوته بأهليهم وأموالهم ، وكان هذا آخر ملوك البيت الأتابكي بسنجار ، فسبحان الحي الدائم الذي ليس لملكه آخر . وكان مدة ملكهم لها أربعا وتسعين سنة ، وهذا دأب الدنيا بأبنائها ، فتعسا لها من دار ما أغدرها بأهلها !

التالي السابق


الخدمات العلمية