صفحة جزء
ذكر ملك التتر مراغة

في صفر سنة ثماني عشرة وستمائة ملك التتر مدينة مراغة من أذربيجان .

[ ص: 348 ] وسبب ذلك أننا ذكرنا سنة سبع عشرة وستمائة ما فعله التتر بالكرج ، وانقضت تلك السنة وهم في بلاد الكرج ، فلما دخلت سنة ثماني عشرة وستمائة ساروا من ناحية الكرج ، لأنهم رأوا أن بين أيديهم شوكة قوية ، ومضايق تحتاج إلى قتال وصراع ، فعدلوا عنهم ، وهذه كانت عادتهم ، إذا قصدوا مدينة ورأوا عندها امتناعا عدلوا عنها ، فوصلوا إلى تبريز ، وصانعهم صاحبها بمال وثياب ودواب ، فساروا عنه إلى مدينة مراغة ، فحصروها وليس بها صاحب يمنعها ، لأن صاحبها كانت امرأة ، وهي مقيمة بقلعة رويندز ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " .

فلما حصروها قاتلهم أهلها ، فنصبوا عليها المجانيق ، وزحفوا إليها ، وكانت عادتهم إذا قاتلوا مدينة قدموا من معهم من أسارى المسلمين بين أيديهم يزحفون ويقاتلون ، فإن عادوا قتلوهم ، فكانوا يقاتلون كرها ، وهم المساكين ، كما قيل : كالأشقر إن تقدم ينحر وإن تأخر يعقر ، وكانوا هم يقاتلون وراء المسلمين ، فيكون القتل في المسلمين الأسارى ، وهم بنجوة منه .

فأقاموا عليها عدة أيام ، ثم ملكوا المدينة عنوة وقهرا رابع صفر ، ووضعوا السيف في أهلها ، فقتل منهم ما يخرج عن الحد والإحصاء ، ونهبوا كل ما يصلح لهم ، وما لا يصلح لهم أحرقوه ، واختفى بعض الناس منهم ، فكانوا يأخذون الأسارى ويقولون لهم : نادوا في الدروب أن التتر قد رحلوا ، فإذا نادى أولئك خرج من اختفى فيؤخذ ويقتل .

وبلغني أن امرأة من التتر دخلت دارا وقتلت جماعة من أهلها وهم يظنونها رجلا ، فوضعت السلاح وإذا هي امرأة ، فقتلها رجل أخذته أسيرا ، وسمعت من بعض أهلها أن رجلا من التتر دخل دربا فيه مائة رجل ، فما زال يقتلهم واحدا واحدا حتى أفناهم ، ولم يمد أحد يده إليه بسوء ، ووضعت الذلة على الناس فلا يدفعون عن نفوسهم قليلا ولا كثيرا ، نعوذ بالله من الخذلان .

ثم رحلوا عنها نحو مدينة إربل ، ووصل الخبر إلينا بذلك بالموصل ، فخفنا ، حتى إن بعض الناس هم بالجلاء خوفا من السيف ، وجاءت كتب مظفر الدين ، صاحب [ ص: 349 ] إربل ، إلى بدر الدين ، صاحب الموصل ، يطلب منه نجدة من العساكر ، فسير إليه جمعا صالحا من عسكره ، وأراد أن يمضي إلى طرف بلاده من جهة التتر ، ويحفظ المضايق لئلا يجوزها أحد ، فإنها جميعها جبال وعرة ومضايق لا يقدر أن يجوزها إلا الفارس بعد الفارس ، ويمنعهم من الجواز إليه .

ووصلت كتب الخليفة ورسله إلى الموصل وإلى مظفر الدين يأمر الجميع بالاجتماع مع عساكره بمدينة دقوقا ليمنعوا التتر ، فإنهم ربما عدلوا عن جبال إربل ، لصعوبتها ، إلى هذه الناحية ، ويطرقون العراق ، فسار مظفر الدين من إربل في صفر ، وسار إليهم جمع من عسكر الموصل ، وتبعهم من المتطوعة كثير .

وأرسل الخليفة أيضا إلى الملك الأشرف يأمره بالحضور بنفسه في عساكره ليجتمع الجميع على قصد التتر وقتالهم ، فاتفق أن الملك المعظم ابن الملك العادل وصل من دمشق إلى أخيه الأشرف وهو بحران يستنجده على الفرنج الذين بمصر ، وطلب منه أن يحضر بنفسه ليسيروا كلهم إلى مصر ليستنقذوا دمياط من الفرنج ، فاعتذر إلى الخليفة بأخيه ، وقوة الفرنج ، وإن لم يتداركها ، وإلا خرجت هي وغيرها ، وشرع يتجهز للمسير إلى الشام ليدخل مصر . وكان ما ذكرناه من استنقاذ دمياط .

فلما اجتمع مظفر الدين والعساكر بدقوقا سير الخليفة إليهم مملوكه قشتمر ، وهو أكبر أمير بالعراق ، ومعه غيره من الأمراء ، في نحو ثماني مائة فارس ، فاجتمعوا هناك ليتصل بهم باقي عسكر الخليفة ، وكان المقدم على الجميع مظفر الدين ، فلما رأى قلة العسكر لم يقدم على قصد التتر .

وحكى مظفر الدين قال : لما أرسل إلي الخليفة في معنى قصد التتر قلت له : إن العدو قوي ، وليس لي من العسكر ما ألقاه به ، فإن اجتمع معي عشرة آلاف فارس استنقذت ما أخذ من البلاد فأمرني بالمسير ، ووعدني بوصول العسكر ، فلما سرت لم يحضر عندي غير عدد لم يبلغوا ثماني مائة طواشي ، فأقمت ، وما رأيت المخاطرة بنفسي وبالمسلمين .

ولما سمع التتر باجتماع العساكر لهم رجعوا القهقرى ظنا منهم أن العسكر [ ص: 350 ] يتبعهم ، فلما لم يروا أحدا يطلبهم أقاموا ، وأقام العسكر الإسلامي عند دقوقا ، فلما لم يروا العدو يقصدهم ، ولا المدد يأتيهم ، تفرقوا ، وعادوا إلى بلادهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية