صفحة جزء
ذكر ملك التتر خراسان

لما سار الجيش المنفذ إلى خراسان عبروا جيحون ، وقصدوا مدينة بلخ ، فطلب أهلها الأمان ، فأمنوهم ، فسلم البلد سنة سبع عشرة وستمائة ، ولم يتعرضوا له بنهب ولا قتل ، بل جعلوا فيه شحنة ، وساروا وقصدوا الزوزان ، وميمند ، وأندخوي ، وقاريات ، فملكوا الجميع وجعلوا فيه ولاة ، ولم يتعرضوا لأهلها بسوء ولا أذى ، سوى أنهم كانوا يأخذوا الرجال ليقاتلوا بهم من يمتنع عليهم ، حتى وصلوا إلى الطالقان ، وهي ولاية تشتمل على عدة بلاد ، وفيها قلعة حصينة يقال لها منصوركوه ، لا ترام علوا وارتفاعا ، وبها رجال يقاتلون ، شجعان ، فحصروها مدة ستة أشهر يقاتلون أهلها ليلا ونهارا ولا يظفرون منها بشيء

[ ص: 358 ] فأرسلوا إلى جنكزخان يعرفونه عجزهم عن ملك هذه القلعة ، لكثرة من فيها من المقاتلة ، ولامتناعها بحصانتها ، فسار بنفسه وبمن عنده من جموعه إليهم ، وحصرها ، ومعه خلق كثير من المسلمين أسرى ، فأمرهم بمباشرة القتال وإلا قتلهم ، فقاتلوا معه ، وأقام عليها أربعة أشهر أخرى ، فقتل من التتر عليها خلق كثير ، فلما رأى ملكهم ذلك أمر أن يجمع له من الحطب والأخشاب ما أمكن جمعه ، ففعلوا ذلك ، وصاروا يعملون صفا من خشب وفوقه صفا من تراب ، فلم يزالوا كذلك حتى صار تلا عاليا يوازي القلعة ، وصعد الرجالة فوقه ونصبوا عليه منجنيقا فصار يرمي إلى وسط القلعة وحملوا على التتر حملة واحدة فسلم الخيالة منهم ونجوا ، وسلكوا تلك الجبال والشعاب .

وأما الرجالة فقتلوا ، ودخل التتر القلعة ، وسبوا النساء والأطفال ، ونهبوا الأموال والأمتعة .

ثم إن جنكزخان جمع أهل البلاد الذين أعطاهم الأمان ببلخ وغيرها ، وسيرهم مع بعض أولاده إلى مدينة مرو ، فوصلوا إليها وقد اجتمع بها مع الأعراب والأتراك وغيرهم ممن نجا من المسلمين ما يزيد على مائتي ألف رجل ، وهم معسكرون بظاهر مرو ، وهم عازمون على لقاء التتر ، ويحدثون نفوسهم بالغلبة لهم ، والاستيلاء عليهم ، فلما وصل التتر إليهم التقوا واقتتلوا ، فصبر المسلمون وأما التتر فلا يعرفون الهزيمة ، حتى إن بعضهم أسر ، فقال وهو عند المسلمين : إن قيل إن التتر يقتلون فصدقوا ، وإن قيل إنهم انهزموا فلا تصدقوا .

فلما رأى المسلمون صبر التتر وإقدامهم ، ولوا منهزمين ، فقتل التتر منهم وأسروا [ ص: 359 ] الكثير ، ولم يسلم إلا القليل ، ونهبت أموالهم ، وسلاحهم ، ودوابهم ، وأرسل التتر إلى ما حولهم من البلاد يجمعون الرجال لحصار مرو ، فلما اجتمع لهم ما أرادوا تقدموا إلى مرو وحصروها ، وجدوا في حصرها ، ولازموا القتال

وكان أهل البلد قد ضعفوا بانهزام ذلك العسكر ، وكثرة القتل والأسر فيهم ، فلما كان اليوم الخامس من نزولهم أرسل التتر إلى الأمير الذي بها متقدما على من فيها يقولون له : لا تهلك نفسك وأهل البلد ، واخرج إلينا فنحن نجعلك أمير هذه البلدة ونرحل عنك . فأرسل يطلب الأمان لنفسه ولأهل البلد ، فأمنهم ، فخرج إليهم ، فخلع عليه ابن جنكزخان ، واحترمه ، وقال له : أريد أن تعرض علي أصحابك حتى ننظر من يصلح لخدمتنا استخدمناه ، وأعطيناه إقطاعا ، ويكون معنا .

فلما حضروا عنده ، وتمكن منهم ، قبض عليهم وعلى أميرهم ، وكتفوهم ، فلما فرغ منهم قال لهم : اكتبوا إلى تجار البلد ورؤسائه ، وأرباب الأموال في جريدة ، واكتبوا إلى أرباب الصناعات والحرف في نسخة أخرى ، واعرضوا ذلك علينا ففعلوا ما أمرهم ، فلما وقف على النسخ أمر أن يخرج أهل البلد منه بأهليهم ، فخرجوا كلهم ، ولم يبق فيه أحد ، فجلس على كرسي من ذهب وأمر أن يحضر أولئك الأجناد الذين قبض عليهم ، فأحضروا ، وضربت رقابهم صبرا والناس ينظرون إليهم ويبكون .

وأما العامة فإنهم قسموا الرجال والنساء والأطفال والأموال ، فكان يوما مشهودا من كثرة الصراخ والبكاء والعويل ، أخذوا أرباب الأموال فضربوهم ، وعذبوهم بأنواع العقوبات في طلب الأموال ، فربما مات أحدهم من شدة الضرب ، ولم يكن بقي له ما يفتدي به نفسه ، ثم إنهم أحرقوا البلد ، وأحرقوا تربة السلطان سنجر ، ونبشوا القبر طلبا للمال ، فبقوا كذلك ثلاثة أيام ، فلما كان اليوم الرابع أمر بقتل أهل البلد كافة ، وقال : هؤلاء عصوا علينا ، فقتلوهم أجمعين ; وأمر بإحصاء القتلى ، فكانوا نحو سبعمائة ألف قتيل ، فإنا لله وإنا إليه راجعون مما جرى على المسلمين ذلك اليوم .

[ ص: 360 ] ثم ساروا إلى نيسابور فحصروها خمسة أيام ، وبها جمع صالح من العسكر الإسلامي ، فلم يكن لهم بالتتر قوة ، فملكوا المدينة ، وأخرجوا أهلها إلى الصحراء فقتلوهم ، وسبوا حريمهم ، وعاقبوا من اتهموه بالمال ، كما فعلوا بمرو ، وأقاموا خمسة عشر يوما يخربون ، ويفتشون المنازل عن الأموال .

وكانوا لما قتلوا أهل مرو قيل لهم إن قتلاهم سلم منهم كثير ، ونجوا إلى بلاد الإسلام ، فأمروا بأهل نيسابور أن تقطع رءوسهم لئلا يسلم من القتل أحد ، فلما فرغوا من ذلك سيروا طائفة منهم إلى طوس ، ففعلوا بها كذلك أيضا ، وخربوها ، وخربوا المشهد الذي فيه علي بن موسى الرضى ، والرشيد ، حتى جعلوا الجميع خرابا .

ثم ساروا إلى هراة ، وهي من أحصن البلاد ، فحصروها عشرة أيام فملكوها وأمنوا أهلها ، وقتلوا منهم البعض ، وجعلوا عند من سلم منهم شحنة ، وساروا إلى غزنة ، فلقيهم جلال الدين بن خوارزم شاه ، فقاتلهم وهزمهم على ما نذكره إن شاء الله ، فوثب أهل هراة على الشحنة فقتلوه ، فلما عاد المنهزمون إليهم دخلوا البلد قهرا وعنوة ، وقتلوا كل من فيه ، ونهبوا الأموال وسبوا الحريم ، ونهبوا السواد خربوا المدينة جميعها وأحرقوها ، وعادوا إلى ملكهم جنكزخان ، وهو بالطالقان يرسل السرايا إلى جميع بلاد خراسان ففعلوا بها كذلك ، ولم يسلم من شرهم وفسادهم شيء من البلاد ، وكان جميع ما فعلوه بخراسان سنة سبع عشرة وستمائة .

التالي السابق


الخدمات العلمية