صفحة جزء
ذكر مسير خالد بن الوليد من العراق إلى الشام

لما رأى المسلمون مطاولة الروم استمدوا أبا بكر ، فكتب إلى خالد بن الوليد يأمره بالمسير إليهم ، وبالحث ، وأن يأخذ نصف الناس ويستخلف على النصف الآخر المثنى بن حارثة الشيباني ، ولا يأخذن من فيه نجدة إلا ويترك عند المثنى مثله ، وإذا فتح الله عليهم رجع خالد وأصحابه إلى العراق .

فاستأثر خالد بأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - على المثنى ، وترك للمثنى عدادهم من أهل القناعة من ليس له صحبة ، ثم قسم الجند نصفين ، فقال المثنى : والله لا أقيم إلا على إنفاذ أمر أبي بكر ، وبالله ما أرجو النصر إلا بأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - . فلما رأى خالد ذلك أرضاه .

وقيل : سار من العراق في ثمانمائة ، وقيل : في ستمائة ، وقيل : في خمسمائة ، وقيل : في تسعة آلاف ، وقيل : في ستة آلاف .

وقيل : إنما أمره أبو بكر أن يأخذ أهل القوة والنجدة ، فأتى حدوداء فقاتله أهلها فظفر بهم ، وأتى المصيخ وبه جمع من تغلب فقاتلهم وظفر بهم ، وسبى وغنم .

[ ص: 253 ] وكان من السبي الصهباء بنت حبيب بن بجير ، وهي أم عمر بن علي بن أبي طالب ، وقيل في أمرها ما تقدم .

وقيل : سار خالد فلما وصل إلى قراقر ، وهو ماء لكلب ، أغار على أهلها ، وأراد أن يسير منهم مفوزا إلى سوى ، وهو ماء لبهراء بينهما خمس ليال ، فالتمس دليلا ، فدل على رافع بن عميرة الطائي ، فقال له في ذلك ، فقال له رافع : إنك لن تطيق ذلك بالخيل والأثقال ، فوالله إن الراكب المفرد يخافه على نفسه . فقال : إنه لابد لي من ذلك لأخرج من وراء جموع الروم ؛ لئلا يحبسني عن غياث المسلمين . فأمر صاحب كل جماعة أن يأخذ الماء للشعبة لخمس ، وأن يعطش من الإبل الشرف ما يكتفي به ، ثم يسقوها عللا بعد نهل - والعلل الشربة الثانية ، والنهل الأولى - ثم يصروا آذان الإبل ويشدوا مشافرها ؛ لئلا تجتر . ثم ركبوا من قراقر ، فلما ساروا يوما وليلة شقوا لعدة من الخيل بطون عشرة من الإبل ، فمزجوا ماء في كروشها بما كان من الألبان ، وسقوا الخيل ، ففعلوا ذلك أربعة أيام . فلما دنا من العلمين قال للناس : انظروا هل ترون شجرة عوسج كقعدة الرجل ؟ فقالوا : ما نراها . فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، هلكتم والله وهلكت معكم ! وكان أرمد . فقال لهم : انظروا ويحكم ! فنظروا فرأوها قد قطعت وبقي منها بقية . فلما رأوها كبروا ، فقال رافع : احفروا في أصلها . فحفروا واستخرجوا عينا ، فشربوا حتى روي الناس . فقال رافع : والله ما وردت هذا الماء قط إلا مرة واحدة مع أبي وأنا غلام . فقال شاعر من المسلمين : لله عينا رافع أنى اهتدى فوز من قراقر إلى سوى خمسا إذا ما سار الجيش بكى ما سارها قبلك إنسي يرى

[ ص: 254 ] فلما انتهى خالد إلى سوى أغار على أهلها - وهم بهراء - وهم يشربون الخمر ومغنيهم يقول :


ألا عللاني قبل جيش أبي بكر لعل منايانا قريب ولا ندري     ألا عللاني بالزجاج وكرروا
علي كميت اللون صافية تجري     ألا عللاني من سلافة قهوة تسلي
هموم النفس من جيد الخمر     أظن خيول المسلمين وخالدا
ستطرقكم قبل الصباح مع النسر     فهل لكم في السير قبل قتالكم
وقبل خروج المعصرات من الخدر



فقتل المسلمون مغنيهم وسال دمه في تلك الجفنة وأخذوا أموالهم ، وقتل حرقوص بن النعمان البهراني . ثم أتى أرك فصالحوه ، ثم أتى تدمر فتحصن أهله ثم صالحوه ، ثم أتى القريتين فقاتلهم فظفر بهم وغنم ، وأتى حوارين فقاتل أهلها فهزمهم وقتل وسبى ، وأتى قصم فصالحه بنو مشجعة من قضاعة ، وسار فوصل إلى ثنية العقاب عند دمشق ناشرا رايته ، وهي راية سوداء ، وكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسمى العقاب ، وقيل : كانت رايته تسمى العقاب فسميت الثنية بها ، وقيل : سميت بعقاب من الطير سقطت عليها . والأول أصح .

ثم سار فأتى مرج راهط فأغار على غسان في يوم فصحهم فقتل وسبى ، [ ص: 255 ] وأرسل سرية إلى كنيسة بالغوطة ، فقتلوا الرجال وسبوا النساء وساقوا العيال إلى خالد . ثم سار حتى وصل إلى بصرى ، فقاتل من بها فظفر بهم وصالحهم ، فكانت بصرى أول مدينة فتحت بالشام على يد خالد وأهل العراق .

وبعث بالأخماس إلى أبي بكر . ثم سار فطلع على المسلمين في ربيع الآخر ، وطلع باهان على الروم ومعه الشمامسة والقسيسون والرهبان يحرضون الروم على القتال ، وخرج باهان كالمعتذر ، فولي خالد قتاله ، وقاتل الأمراء من بإزائهم ، ورجع باهان والروم إلى خندقهم وقد نال منهم المسلمون .

( عميرة بفتح العين المهملة وكسر الميم ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية