صفحة جزء
ذكر وقعة البويب

لما بلغ عمر خبر وقعة أبي عبيد بالجسر ندب الناس إلى المثنى ، وكان فيمن ندب بجيلة ، وأمرهم إلى جرير بن عبد الله ؛ لأنه كان قد جمعهم من القبائل وكانوا متفرقين فيها ، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجمعهم فوعده ذلك ، فلما ولي عمر طلب منه ذلك فكتب إلى عماله : إنه من كان ينسب إلى بجيلة في الجاهلية وثبت عليه في الإسلام ، فأخرجوه إلى جرير ، ففعلوا ذلك ، فلما اجتمعوا أمرهم عمر العراق ، وأبوا إلا الشام ، فعزم عمر على العراق ، وينفلهم ربع الخمس ، فأجابوا ، وسيرهم إلى المثنى بن حارثة ، وبعث عصمة بن عبد الله الضبي فيمن تبعه إلى المثنى ، وكتب إلى أهل الردة فلم يأته أحد إلا رمى به المثنى ، وبعث المثنى الرسل فيمن يليه من العرب ، فتوافوا إليه في جمع عظيم . وكان فيمن جاءه أنس بن هلال النمري في جمع عظيم من النمر نصارى ، وقالوا : نقاتل مع قومنا .

[ ص: 280 ] وبلغ الخبر رستم والفيرزان ، فبعثا مهران الهمذاني إلى الحيرة ، فسمع المثنى ذلك وهو بين القادسية وخفان ، فاستبطن فرات بادقلى ، وكتب إلى جرير وعصمة وكل من أتاه ممدا له يعلمهم الخبر ، ويأمرهم بقصد البويب ، فهو الموعد ، فانتهوا إلى المثنى وهو بالبويب ومهران بإزائه من وراء الفرات ، فاجتمع المسلمون بالبويب مما يلي الكوفة اليوم ، وأرسل مهران إلى المثنى يقول : إما أن تعبر إلينا ، وإما أن نعبر إليك . فقال المثنى : اعبروا . فعبر مهران ، فنزل على شاطئ الفرات ، وعبى المثنى أصحابه ، وكان في رمضان ، فأمرهم بالإفطار ليقووا على عدوهم ، فأفطروا .

وكان على مجنبتي المثنى بشير بن الخصاصية ، وبسر بن أبي رهم ، وعلى مجردته المعنى أخوه ، وعلى الرجل مسعود أخوه ، وعلى الردء مذعور ، وكان على مجنبتي مهران بن الأزاذبه مرزبان الحيرة ومردانشاه . وأقبل الفرس في ثلاثة صفوف ، مع كل صف فيل ، ورجلهم أمام فيلهم ولهم زجل ، فقال المثنى للمسلمين : إن الذي تسمعون فشل ، فالزموا الصمت .

ودنوا من المسلمين ، وطاف المثنى في صفوفه يعهد إليهم وهو على فرسه الشموس ، وإنما سمي بذلك للينه ، وكان لا يركبه إلا إذا قاتل ، فوقف على الرايات يحرضهم ويهزهم ، ولكلهم يقول : إني لأرجو أن لا يؤتى الناس من قبلكم اليوم ، والله ما يسرني اليوم لنفسي شيء إلا وهو يسرني لعامتكم ، فيجيبونه بمثل ذلك ، وأنصفهم من نفسه في القول والفعل ، وخلط الناس في المحبوب والمكروه ، فلم يقدر أحد أن يعيب له قولا ولا فعلا ، وقال : إني مكبر ثلاثا ، فتهيئوا ، ثم احملوا في الرابعة . فلما كبر أول تكبيرة أعجلتهم فارس وخالطوهم ، وركدت خيلهم وحربهم مليا ، فرأى المثنى خللا في بني عجل ، فجعل يمد لحيته لما يرى منهم ، وأرسل إليهم يقول : الأمير يقرأ عليكم السلام ويقول : لا تفضحوا المسلمين اليوم . فقالوا : نعم ، واعتدلوا . فضحك فرحا .

فلما طال القتال واشتد قال المثنى لأنس بن هلال النمري : إنك امرؤ عربي وإن لم تكن على ديننا ، فإذا حملت على مهران فاحمل معي ، فأجابه ، فحمل المثنى على مهران فأزاله حتى دخل في ميمنته ، ثم خالطوهم واجتمع القلبان ، وارتفع الغبار والمجنبات تقتل ، لا يستطيعون أن يفرغوا لنصر أميرهم ، لا المسلمون ولا المشركون ، وارتث مسعود أخو المثنى يومئذ وجماعة من أعيان المسلمين ، فلما أصيب مسعود تضعضع من [ ص: 281 ] معه ، فقال : يا معشر بكر ، ارفعوا رايتكم رفعكم الله ، ولا يهولنكم مصرعي . وكان المثنى قال لهم : إذا رأيتمونا أصبنا فلا تدعوا ما أنتم فيه ، الزموا مصافكم وأغنوا غناء من يليكم .

وأوجع قلب المسلمين في قلب المشركين ، وقتل غلام نصراني من تغلب مهران واستوى على فرسه ، فجعل المثنى سلبه لصاحب خيله ، وكان التغلبي قد جلب خيلا هو وجماعة من تغلب ، فلما رأوا القتال قاتلوا مع العرب ، قال : وأفنى المثنى قلب المشركين ، والمجنبات بعضها يقاتل بعضا . فلما رأوه قد أزال القلب وأفنى أهله وثب مجنبات المسلمين على مجنبات المشركين ، وجعلوا يردون الأعاجم على أدبارهم ، وجعل المثنى والمسلمون في القلب يدعون لهم بالنصر ، ويرسل إليهم من يذمرهم ويقول لهم : عاداتكم في أمثالكم ، انصروا الله ينصركم ، حتى هزموا الفرس ، وسبقهم المثنى إلى الجسر وأخذ طريق الأعاجم ، فافترقوا مصعدين ومنحدرين ، وأخذتهم خيول المسلمين حتى قتلوهم وجعلوهم جثا .

فما كانت بين المسلمين والفرس وقعة أبقى رمة منها ، بقيت عظام القتلى دهرا طويلا ، وكانوا يحزرون القتلى مائة ألف ، وسمي ذلك اليوم الأعشار ، أحصي مائة رجل قتل كل رجل منهم عشرة . وكان عروة بن زيد الخيل من أصحاب التسعة ، وغالب الكناني وعرفجة الأزدي من أصحاب التسعة . وقتل المشركون فيما بين السكون المثنى على أخذه بالجسر وقال : عجزت عجزة وقى الله شرها بمسابقتي إياهم إلى الجسر حتى أحرجتهم ، فلا تعودوا أيها الناس إلى مثلها ، فإنها كانت زلة ، فلا ينبغي إحراج من لا يقوى على امتناع .

ومات أناس من الجرحى ، منهم : مسعود أخو المثنى ، وخالد بن هلال ، فصلى عليهم المثنى وقال : والله إنه ليهون وجدي أن صبروا وشهدوا البويب ، ولم ينكلوا .

وكان قد أصاب المسلمون غنما ودقيقا وبقرا ، فبعثوا به إلى عيال من قدم من المدينة وهم بالقوادس . وأرسل المثنى الخيل في طلب العجم ، فبلغوا السيب وغنموا من البقر والسبي وسائر الغنائم شيئا كثيرا ، فقسمه فيهم ، ونفل أهل البلاد ، وأعطى بجيلة ربع الخمس ، وأرسل الذين تبعوا المنهزمين إلى المثنى يعرفونه سلامتهم ، وأنه لا مانع [ ص: 282 ] دون القوم ، ويستأذنونه في الإقدام ، فأذن لهم ، فأغاروا حتى بلغوا ساباط ، وتحصن أهله منهم واستباحوا القرى ، ثم مخروا السواد فيما بينهم وبين دجلة ، لا يخافون كيدا ولا يلقون مانعا ، ورجعت مسالح العجم إليهم ، وسرهم أن يتركوا ما وراء دجلة .

( بسر بن أبي رهم بضم الباء الموحدة ، وسكون السين المهملة ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية