صفحة جزء
وكان خروج رستم من المدائن في ستين ألف متبوع ، ومسيره عن ساباط في مائة ألف وعشرين ألف متبوع ، وقيل غير ذلك .

ولما فصل رستم عن ساباط كتب إلى أخيه البنذوان : أما بعد فرموا حصونكم وأعدوا واستعدوا ، فكأنكم بالعرب قد قارعوكم عن أرضكم وأبنائكم ، وقد كان من رأيي مدافعتهم ومطاولتهم حتى تعود سعودهم نحوسا ، فإن السمكة قد كدرت الماء ، وإن النعائم قد حسنت ، والزهرة قد حسنت ، واعتدل الميزان ، وذهب بهرام ، ولا أرى هؤلاء [ ص: 295 ] القوم إلا سيظهرون علينا ، ويستولون على ما يلينا ، وإن أشد ما رأيت أن الملك قال : لتسيرن أو لأسيرن بنفسي .

ولقي جابان رستم على قنطرة ساباط ، وكانا منجمين ، فشكا إليه وقال له : ألا ترى ما أرى ؟ فقال له رستم : أما أنا فأقاد بخشاش وزمام ، ولا أجد بدا من الانقياد . ثم سار فنزل بكوثى ، فأتي برجل من العرب ، فقال له : ما جاء بكم وماذا تطلبون ؟ فقال : جئنا نطلب موعود الله بملك أرضكم وأبنائكم إن أبيتم أن تسلموا . قال رستم : فإن قتلتم قبل ذلك ! قال : من قتل منا دخل الجنة ، ومن بقي منا أنجزه الله ما وعده ، فنحن على يقين .

فقال رستم : قد وضعنا إذن في أيديكم ! فقال : أعمالكم وضعتكم فأسلمكم الله بها ، فلا يغرنك من ترى حولك ، فإنك لست تجاول الإنس إنما تجاول القدر . فضرب عنقه ، ثم سار فنزل البرس ، فغصب أصحابه الناس أبناءهم وأموالهم ووقعوا على النساء وشربوا الخمور ، فضج أهلها إلى رستم فقال : يا معشر فارس ، والله لقد صدق العربي ، والله ما أسلمنا إلا أعمالنا ، والله إن العرب مع هؤلاء وهم لهم حرب أحسن سيرة منكم ، إن الله كان ينصركم على العدو ويمكن لكم في البلاد بحسن السيرة ، وكف الظلم والوفاء والإحسان ، فإذا تغيرتم فلا يرى الله إلا مغيرا ما بكم ، وما أنا بآمن من أن ينزع الله سلطانه منكم . وأتي ببعض من يشكى منه فضرب عنقه .

ثم سار حتى نزل الحيرة ، ودعا أهلها وتهددهم وهم بهم ، فقال له ابن بقيلة : لا تجمع علينا أن تعجز عن نصرتنا ، وتلومنا على الدفع عن أنفسنا .

ولما نزل رستم بالنجف رأى كأن ملكا نزل من السماء ومعه النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمر ، فأخذ الملك سلاح أهل فارس فختمه ، ثم دفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فدفعه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عمر ، فأصبح رستم حزينا .

وأرسل سعد السرايا ورستم بالنجف ، والجالينوس بين النجف والسيلحين ، فطافت في السواد ، فبعث سوادا وحميضة في مائة مائة ، فأغاروا على النهرين ، وبلغ رستم الخبر فأرسل إليهم خيلا ، وسمع سعد أن خيله قد وغلت فأرسل عاصم بن عمرو وجابرا [ ص: 296 ] الأسدي في آثارهم ، فلقيهم عاصم وخيل فارس تحوشهم ليخلصوا ما بأيديهم ، فلما رأته الفرس هربوا ورجع المسلمون بالغنائم .

وأرسل سعد عمرو بن معدي كرب وطليحة الأسدي طليعة ، فسارا في عشرة ، فلم يسيروا إلا فرسخا وبعض آخر حتى رأوا مسالحهم وسرحهم على الطفوف قد ملئوها ، فرجع عمرو ومن معه ، وأبى طليحة إلا التقدم ، فقالوا له : أنت رجل في نفسك غدر ، ولن تفلح بعد قتل عكاشة بن محصن ، فارجع معنا . فأبى ، فرجعوا إلى سعد فأخبروه بقرب القوم .

ومضى طليحة حتى دخل عسكر رستم ، وبات فيه يجوسه ويتوسم ، فهتك أطناب بيت رجل عليه واقتاد فرسه ، ثم هتك على آخر بيته وحل فرسه ، ثم فعل بآخر كذلك ، ثم خرج يعدو به فرسه ، ونذر به الناس فركبوا في طلبه ، فأصبح وقد لحقه فارس من الجند فقتله طليحة ، ثم آخر فقتله ، ثم لحق به ثالث فرأى مصرع صاحبيه ، وهما ابنا عمه ، فازداد حنقا ، فلحق طليحة ، فكر عليه طليحة وأسره ، ولحقه الناس ، فرأوا فارسي الجند قد قتلا وأسر الثالث وقد شارف طليحة عسكره ، فأحجموا عنه ، ودخل طليحة على سعد ومعه الفارسي وأخبره الخبر ، فسأل الترجمان الفارسي ، فطلب الأمان ، فآمنه سعد ، قال : أخبركم عن صاحبكم هذا قبل أن أخبركم عمن قبلي ، باشرت الحروب منذ أنا غلام إلى الآن ، وسمعت بالأبطال ، ولم أسمع بمثل هذا ، أن رجلا قطع فرسخين إلى عسكر فيه سبعون ألفا ، يخدم الرجل منهم الخمسة والعشرة ، فلم يرض أن يخرج كما دخل حتى سلب فرسان الجند ، وهتك عليهم البيوت ، فلما أدركناه قتل الأول وهو يعد بألف فارس ، ثم الثاني وهو نظيره ، ثم أدركته أنا ولا أظن أنني خلفت من بعدي من يعدلني وأنا الثائر بالقتيلين ، فرأيت الموت واستؤسرت . ثم أخبره عن الفرس ، وأسلم ولزم طليحة ، وكان من أهل البلاء بالقادسية ، وسماه سعد مسلما .

ثم سار رستم وقدم الجالينوس وذا الحاجب ، فنزل الجالينوس بحيال زهرة من دون القنطرة ، ونزل ذو الحاجب بطيزناباذ ، ونزل رستم بالخرارة ، ثم سار رستم فنزل بالقادسية ، وكان بين مسيره من المدائن ووصوله القادسية أربعة أشهر ، لا يقدم رجاء أن [ ص: 297 ] يضجروا بمكانهم فينصرفوا ، وخاف أن يلقى ما لقي من قبله ، وطاولهم لولا ما جعل الملك يستعجله وينهضه ويقدمه ، حتى أقحمه .

وكان عمر قد كتب إلى سعد يأمره بالصبر والمطاولة أيضا ، فأعد للمطاولة .

فلما وصل رستم القادسية وقف على العتيق بحيال عسكر سعد ونزل الناس ، فما زالوا يتلاحقون حتى أعتموا من كثرتهم ، والمسلمون ممسكون عنهم . وكان مع رستم ثلاثة وثلاثون فيلا ، منها فيل سابور الأبيض ، وكانت الفيلة تألفه ، فجعل في القلب ثمانية عشر فيلا ، وفي المجنبتين خمسة عشر فيلا .

فلما أصبح رستم من تلك الليلة ركب وساير العتيق نحو خفان ، حتى أتى على منقطع عسكر المسلمين ، ثم صعد حتى انتهى إلى القنطرة ، فتأمل المسلمين ووقف على موضع يشرف منه عليهم ، ووقف على القنطرة ، وأرسل إلى زهرة فواقفه ، فأراده على أن يصالحه ويجعل له جعلا على أن ينصرفوا عنه من غير أن يصرح له بذلك ، بل يقول له : كنتم جيراننا ، وكنا نحسن إليكم ونحفظكم . ويخبره عن صنيعهم مع العرب .

فقال له زهرة : ليس أمرنا أمر أولئك ، إننا لم نأتكم لطلب الدنيا ، إنما طلبتنا وهمتنا الآخرة ، وقد كنا كما ذكرت إلى أن بعث الله فينا رسولا ، فدعانا إلى ربه ، فأجبناه ، فقال لرسوله : إني سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بديني ، فأنا منتقم به منهم ، وأجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به ، وهو دين الحق لا يرغب عنه أحد إلا ذل ، ولا يعتصم به أحد إلا عز .

فقال له رستم : ما هو ؟ قال : أما عموده الذي لا يصلح إلا به فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . قال : وأي شيء أيضا ؟ قال : وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله ، والناس بنو آدم وحواء إخوة لأب وأم .

قال : ما أحسن هذا ! ثم قال رستم : أرأيت إن أجبت إلى هذا ومعي قومي ، كيف يكون أمركم ، أترجعون ؟ قال : إي والله . قال : صدقتني ، أما إن أهل فارس منذ ولي أردشير لم يدعوا أحدا يخرج من عمله من السفلة ، كانوا يقولون : إذا خرجوا من أعمالهم تعدوا طورهم وعادوا أشرافهم . فقال زهرة : نحن خير الناس للناس ، فلا نستطيع أن نكون كما تقولون ، بل نطيع الله في السفلة ، ولا يضرنا من عصى الله فينا .

فانصرف عنه ودعا رجال فارس فذاكرهم هذا فأنفوا . فأرسل إلى سعد : أن [ ص: 298 ] ابعث إلينا رجلا نكلمه ويكلمنا . فدعا سعد جماعة ليرسلهم إليهم . فقال له ربعي بن عامر : متى نأتهم جميعا يروا أنا قد احتفلنا بهم ، فلا تزدهم على رجل .

فأرسله وحده ، فسار إليهم ، فحبسوه على القنطرة . وأعلم رستم بمجيئه فأظهر زينته ، وجلس على سرير من ذهب ، وبسط البسط والنمارق والوسائد المنسوجة بالذهب ، وأقبل ربعي على فرسه وسيفه في خرقة ، ورمحه مشدود بعصب وقد ، فلما انتهى إلى البسط قيل له : انزل ، فحمل فرسه عليها ونزل ، وربطها بوسادتين شقهما ، وأدخل الحبل فيهما ، فلم ينهوه وأروه التهاون ، وعليه درع ، وأخذ عباءة بعيره فتدرعها وشدها على وسطه . فقالوا : ضع سلاحك . فقال : لم آتكم فأضع سلاحي بأمركم ، أنتم دعوتموني . فأخبروا رستم ، فقال : ائذنوا له . فأقبل يتوكأ على رمحه ويقارب خطوه ، فلم يدع لهم نمرقا ولا بساطا إلا أفسده وهتكه ، فلما دنا من رستم جلس على الأرض ، وركز رمحه على البسط ، فقيل له : ما حملك على هذا ؟ قال : إنا لا نستحب القعود على زينتكم . فقال له ترجمان رستم ، واسمه عبود من أهل الحيرة : ما جاء بكم ؟ قال : الله جاء بنا ، وهو بعثنا لنخرج من يشاء من عباده من ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، فأرسلنا بدينه إلى خلقه ، فمن قبله قبلنا منه ، ورجعنا عنه وتركناه وأرضه دوننا ، ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر . فقال رستم : قد سمعنا قولكم ، فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه ؟ قال : نعم ، وإن مما سن لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا نمكن الأعداء أكثر من ثلاث ، فنحن مترددون عنكم ثلاثا ، فانظر في أمرك ، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل : إما الإسلام وندعك وأرضك ، أو الجزاء فنقبل ونكف عنك ، وإن احتجت إلينا نصرناك ، أو المنابذة في اليوم الرابع ، إلا أن تبدأ بنا ، أنا كفيل بذلك عن أصحابي . قال أسيدهم أنت ؟ قال : لا ، ولكن المسلمين كالجسد الواحد ، بعضهم من بعض ، يجير أدناهم على أعلاهم .

فخلا رستم برؤساء قومه فقال : هل رأيتم كلاما قط أعز وأوضح من كلام هذا الرجل ؟ فقالوا : معاذ الله أن نميل إلى دين هذا الكلب ! أما ترى إلى ثيابه ؟ فقال : ويحكم ! لا تنظروا إلى الثياب ، ولكن انظروا إلى الرأي والكلام والسيرة ، إن العرب تستخف باللباس وتصون الأحساب ، ليسوا مثلكم .

فلما كان من الغد أرسل رستم إلى سعد : أن ابعث إلينا ذلك الرجل . فبعث إليهم حذيفة بن محصن ، فأقبل في نحو من ذلك الزي ، ولم ينزل عن فرسه ، ووقف على [ ص: 299 ] رستم راكبا . قال له : انزل . قال : لا أفعل . فقال له : ما جاء بك ولم يجئ الأول ؟ قال له : إن أميرنا يحب أن يعدل بيننا في الشدة والرخاء ، وهذه نوبتي . فقال : ما جاء بكم ؟ فأجابه مثل الأول . فقال رستم : أو الموادعة إلى يوم ما ؟ قال : نعم ، ثلاثا من أمس . فرده وأقبل على أصحابه وقال : ويحكم ! أما ترون ما أرى ؟ جاءنا الأول بالأمس فغلبنا على أرضنا ، وحقر ما نعظم وأقام فرسه على زبرجنا ، وجاء هذا اليوم فوقف علينا وهو في يمن الطائر ، يقوم على أرضنا دوننا .

فلما كان الغد أرسل : ابعثوا إلينا رجلا . فبعث المغيرة بن شعبة ، فأقبل إليهم وعليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب ، وبسطهم على غلوة ، لا يوصل إلى صاحبهم حتى يمشى عليها ، فأقبل المغيرة حتى جلس مع رستم على سريره ، فوثبوا عليه وأنزلوه ومعكوه ، وقال : قد كانت تبلغنا عنكم الأحلام ، ولا أرى قوما أسفه منكم ، إنا معشر العرب لا نستعبد بعضنا بعضا ، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى ، فكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض ، فإن هذا الأمر لا يستقيم فيكم ولا يصنعه أحد ، وإني لم آتكم ولكن دعوتموني ، اليوم علمت أنكم مغلبون ، وأن ملكا لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول . فقالت السفلة : صدق والله العربي . وقالت الدهاقين : والله لقد رمى بكلام لا تزال عبيدنا ينزعون إليه ، قاتل الله أولينا حين كانوا يصغرون أمر هذه الأمة !

ثم تكلم رستم فحمد قومه وعظم أمرهم وقال : لم نزل متمكنين في البلاد ، ظاهرين على الأعداء ، أشرافا في الأمم ، فليس لأحد مثل عزنا وسلطاننا ، ننصر عليهم ولا ينصرون علينا ، إلا اليوم واليومين والشهر للذنوب ، فإذا انتقم الله منا ورضي علينا رد لنا الكرة على عدونا ، ولم يكن في الأمم أمة أصغر عندنا أمرا منكم ، كنتم أهل قشف ومعيشة سيئة لا نراكم شيئا ، وكنتم تقصدوننا إذا قحطت بلادكم ، فنأمر لكم بشيء من التمر والشعير ثم نردكم ، وقد علمت أنه لم يحملكم على ما صنعتم إلا الجهد في بلادكم ، فأنا آمر لأميركم بكسوة وبغل وألف درهم ، وآمر لكل منكم بوقر تمر وتنصرفون عنا ، فإني أشتهي أن أقتلكم .

[ ص: 300 ] فتكلم المغيرة فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : إن الله خالق كل شيء ورازقه ، فمن صنع شيئا فإنما هو يصنعه ، وأما الذي ذكرت به نفسك وأهل بلادك فنحن نعرفه ، فالله صنعه بكم ووضعه فيكم ، وهو له دونكم ، وأما الذي ذكرت فينا من سوء الحال والضيق والاختلاف فنحن نعرفه ولسنا ننكره ، والله ابتلانا به والدنيا دول ، ولم يزل أهل الشدائد يتوقعون الرخاء حتى يصيروا إليه ، ولم يزل أهل الرخاء يتوقعون الشدائد حتى تنزل بهم ، ولو شكرتم ما آتاكم الله لكان شكركم يقصر عما أوتيتم ، وأسلمكم ضعف الشكر إلى تغير الحال ، ولو كنا فيما ابتلينا به أهل كفر لكان عظيم ما ابتلينا به مستجلبا من الله رحمة يرفه بها عنا ، إن الله - تبارك وتعالى - بعث فينا رسولا . ثم ذكر مثل ما تقدم من ذكر الإسلام والجزية والقتال ، وقال له : وإن عيالنا قد ذاقوا طعام بلادكم ، فقالوا : لا صبر لنا عنه .

فقال رستم : إذا تموتون دونها . فقال المغيرة : يدخل من قتل منا الجنة ومن قتل منكم النار ، ويظفر من بقي منا بمن بقي منكم .

فاستشاط رستم غضبا ثم حلف أن لا يرتفع الصبح غدا حتى نقتلكم أجمعين . وانصرف المغيرة وخلص رستم بأهل فارس وقال : أين هؤلاء منكم ! هؤلاء والله الرجال ، صادقين كانوا أم كاذبين ، والله لئن كان بلغ من عقلهم وصونهم لسرهم أن لا يختلفوا ، فما قوم أبلغ لما أرادوا منهم ، ولئن كانوا صادقين فما يقوم لهؤلاء شيء ! فلجوا وتجلدوا .

فأرسل رستم مع المغيرة وقال له : إذا قطع القنطرة فأعلمه أن عينه تفقأ غدا ، فأعلمه الرسول ذلك : فقال المغيرة : بشرتني بخير وأجر ، ولولا أن أجاهد بعد هذا اليوم أشباهكم من المشركين لتمنيت أن الأخرى ذهبت . فرجع إلى رستم فأخبره . فقال : أطيعوني يا أهل فارس ، إني لأرى لله فيكم نقمة لا تستطيعون ردها .

ثم أرسل إليه سعد بقية ذوي الرأي فساروا ، وكانوا ثلاثة ، إلى رستم فقالوا له : إن أميرنا يدعوك إلى ما هو خير لنا ولك ، العافية أن تقبل ما دعاك الله إليه ، ونرجع إلى أرضنا ، وترجع إلى أرضك ، وداركم لكم وأمركم فيكم ، وما أصبتم كان زيادة لكم دوننا ، وكنا عونا لكم على أحد إن أرادكم ، فاتق الله ولا يكونن هلاك قومك على يدك ، وليس بينك وبين أن تغبط بهذا الأمر إلا أن تدخل فيه ، وتطرد به الشيطان عنك .

‏‏‏‏ [ ص: 301 ] فقال لهم : إن الأمثال أوضح من كثير من الكلام ، إنكم كنتم أهل جهد وقشف لا تنتصفون ولا تمتنعون فلم نسئ جواركم ، وكنا نميركم ونحسن إليكم ، فلما طعمتم طعامنا وشربتم شرابنا وصفتم لقومكم ذلك ، ودعوتموهم ثم أتيتمونا ، وإنما مثلكم ومثلنا كمثل رجل كان له كرم فرأى فيه ثعلبا ، فقال : وما ثعلب ! فانطلق الثعلب ، فدعا الثعالب إلى ذلك الكرم ، فلما اجتمعوا إليه سد صاحب الكرم النقب الذي كن يدخلن منه فقتلهن ; فقد علمت أن الذي حملكم على هذا : الحرص والجهد ، فارجعوا ونحن نميركم ، فإني لا أشتهي أن أقتلكم ، ومثلكم أيضا كالذباب يرى العسل فيقول : من يوصلني إليه وله درهمان ؟ فإذا دخله غرق ونشب ، فيقول : من يخرجني وله أربعة دراهم ؟ وقال أيضا : إن رجلا وضع سلة وجعل طعاما فيها ، فأتى الجرذان فخرقن السلة ، فدخلن فيها ، فأراد سدها فقيل له : لا تفعل إذن يخرقنه ، لكن انقب بحياله ، ثم اجعل ( فيها ) قصبة مجوفة ، فإذا دخلها الجرذان وخرجن منها فاقتل كل ما خرج منها ، وقد سددت عليكم ( فإياكم ) أن تقتحموا القصبة فلا يخرج منها أحد إلا قتل ، فما دعاكم إلى ما صنعتم ولا أرى عددا ولا عدة ! .

قال : فتكلم القوم ، وذكروا سوء حالهم ، وما من الله به عليهم من إرسال رسوله ، واختلافهم أولا ، ثم اجتماعهم على الإسلام ، وما أمرهم به من الجهاد ، وقالوا : وأما ما ضربت لنا من الأمثال فليس كذلك ، ولكن إنما مثلكم كمثل رجل غرس أرضا واختار لها الشجر ، وأجرى إليها الأنهار ، وزينها بالقصور ، وأقام فيها فلاحين يسكنون قصورها ويقومون على جنانها ، فخلا الفلاحون في القصور على ما لا يحب ، فأطال إمهالهم فلم يستحيوا ، فدعا إليها غيرهم وأخرجهم منها ، فإن ذهبوا عنها تخطفهم الناس وإن أقاموا فيها صاروا خولا لهؤلاء فيسومونهم الخسف أبدا ; والله لو لم يكن ما نقول حقا ، ولم يكن إلا الدنيا ، لما صبرنا عن الذي نحن فيه من لذيذ عيشكم ، ورأينا من بزرجكم ، ولقارعناكم عليه ! .

فقال رستم : أتعبرون إلينا أم نعبر إليكم ؟ فقالوا : بل اعبروا إلينا .

ورجعوا من عنده عشيا ، وأرسل سعد إلى الناس أن يقفوا مواقفهم ، وأرسل إليهم : شأنكم والعبور ، فأرادوا القنطرة فقال : لا ولا كرامة ! أما شيء غلبناكم عليه فلن نرده عليكم . فباتوا يسكرون العتيق حتى الصباح بالتراب والقصب والبراذع حتى جعلوه طريقا ، واستتم بعدما ارتفع النهار .

[ ص: 302 ] ورأى رستم من الليل كأن ملكا نزل من السماء ، فأخذ قسي أصحابه ، فختم عليها ، ثم صعد بها إلى السماء ، فاستيقظ مهموما واستدعى خاصته ، فقصها عليهم وقال : إن الله ليعظنا لو اتعظنا . ولما ركب رستم ليعبر كان عليه درعان ومغفر ، وأخذ سلاحه ووثب ، فإذا هو على فرسه لم يضع رجله في الركاب ، وقال : غدا ندقهم دقا ! فقال له رجل : إن شاء الله . فقال : وإن لم يشأ ! ثم قال : إنما ضغا الثعلب حين مات الأسد - يعني كسرى - وإني أخشى أن تكون هذه سنة القرود !

فإنما قال هذه الأشياء توهينا للمسلمين عند الفرس ، وإلا فالمشهور عنه الخوف من المسلمين ، وقد أظهر ذلك إلى من يثق به .

التالي السابق


الخدمات العلمية