صفحة جزء
ذكر ليلة الهرير وقتل رستم

قيل : إنما سميت بذلك لتركهم الكلام إنما كانوا يهرون هريرا ، وأرسل سعد طليحة وعمرا ليلة الهرير إلى مخاضة أسفل العسكر ، ليقوموا عليها خشية أن يأتيه القوم منها . فلما أتياها قال طليحة : لو خضنا وأتينا الأعاجم من خلفهم . قال عمرو : بل نعبر أسفل . فافترقا ، وأخذ طليحة وراء العسكر وكبر ثلاث تكبيرات ، ثم ذهب وقد ارتاع أهل فارس وتعجب المسلمون ، وطلبه الأعاجم فلم يدركوه .

[ ص: 312 ] وأما عمرو فإنه أغار أسفل المخاضة ورجع ، وخرج مسعود بن مالك الأسدي ، وعاصم بن عمرو ، وابن ذي البردين الهلالي ، وابن ذي السهمين ، وقيس بن هبيرة الأسدي وأشباههم فطاردوا القوم ، فإذا هم لا يشدون ولا يريدون غير الزحف ، فقدموا صفوفهم وزاحفهم الناس بغير إذن سعد ، وكان أول من زاحفهم القعقاع ، وقال سعد : اللهم اغفرها له وانصره ، فقد أذنت له إن لم يستأذني . ثم قال : أرى الأمر ما فيه هذا ، فإذا كبرت ثلاثا فاحملوا ، وكبر واحدة فلحقهم أسد ، فقال : اللهم اغفرها لهم وانصرهم . ثم حملت النخع فقال : اللهم اغفرها لهم وانصرهم . ثم حملت بجيلة فقال : اللهم اغفرها لهم وانصرهم . ثم حملت كندة فقال : اللهم اغفرها لهم وانصرهم . ثم زحف الرؤساء ورحا الحرب تدور على القعقاع ، وتقدم حنظلة بن الربيع ، وأمراء الأعشار ، وطليحة ، وغالب ، وحمال ، وأهل النجدات ، ولما كبر الثالثة لحق الناس بعضهم بعضا ، وخالطوا القوم ، واستقبلوا الليل استقبالا بعدما صلوا العشاء ، وكان صليل الحديد فيها كصوت القيون ليلتهم إلى الصباح ، وأفرغ الله الصبر عليهم إفراغا ، وبات سعد بليلة لم يبت بمثلها ، ورأى العرب والعجم أمرا لم يروا مثله قط ، وانقطعت الأخبار والأصوات عن سعد ورستم ، وأقبل سعد على الدعاء ، فلما كان عند الصبح انتمى الناس ، فاستدل بذلك على أنهم الأعلون ، وكان أول شيء سمعه نصف الليل الباقي صوت القعقاع بن عمرو وهو يقول :


نحن قتلنا معشرا وزائدا أربعة وخمسة وواحدا     نحسب فوق اللبد والأساودا
حتى إذا ماتوا دعوت جاهدا     الله ربي واحترزت عامدا



وقتلت كندة تركا الطبري ، وكان مقدما فيهم .

وأصبح الناس ليلة الهرير وتسمى ليلة القادسية من بين تلك الليالي وهم حسرى ، لم يغمضوا ليلتهم كلها . فسار القعقاع في الناس فقال : إن الدائرة بعد ساعة لمن بدأ القوم ، فاصبروا ساعة واحملوا ، فإن النصر مع الصبر . فاجتمع إليهم جماعة من الرؤساء وصمدوا لرستم حتى خالطوا الذين دونه مع الصبح . فلما رأت ذلك القبائل قام فيها رؤساؤهم وقالوا : لا يكونن هؤلاء أجد في أمر الله منكم ، ولا هؤلاء ، يعني الفرس ، أجرأ على الموت منكم . فحملوا فيما يليهم ، وخالطوا من بإزائهم ، فاقتتلوا حتى [ ص: 313 ] قام قائم الظهيرة ، فكان أول من زال الفيرزان والهرمزان ، فتأخرا وثبتا حيث انتهيا ، وانفرج القلب ، وركد عليهم النقع وهبت ريح عاصف فقلعت طيارة رستم عن سريره ، فهوت في العتيق ، وهي دبور ، ومال الغبار عليهم ، وانتهى القعقاع ومن معه إلى السرير فعثروا به ، وقد قام رستم عنه حين أطارت الريح الطيارة إلى بغال قد قدمت عليه بمال ، فهي واقفة ، فاستظل في ظل بغل وحمله ، وضرب هلال بن علفة الحمل الذي تحته رستم ، فقطع حباله ، ووقع عليه أحد العدلين ، ولا يراه هلال ولا يشعر به ، فأزال عن ظهره فقارا ، وضربه هلال ضربة فنفحت مسكا . ومضى رستم نحو العتيق فرمى بنفسه فيه ، واقتحمه هلال عليه وأخذ برجليه ، ثم خرج به فضرب جبينه بالسيف حتى قتله ، ثم ألقاه بين أرجل البغال ، ثم صعد السرير وقال : قتلت رستم ورب الكعبة ! إلي إلي ! فأطافوا به وكبروا ، فنفله سعد سلبه ، وكان قد أصابه الماء ولم يظفر بقلنسوته ، ولو ظفر بها لكانت قيمتها مائة ألف .

وقيل : إن هلالا لما قصد رستم رماه رستم بنشابة أثبت قدمه بالركاب ، فحمل عليه هلال فضربه فقتله ، ثم احتز رأسه وعلقه ونادى : قتلت رستم ! فانهزم قلب المشركين .

وقام الجالينوس على الردم ، ونادى الفرس إلى العبور ، وأما المقترنون فإنهم جشعوا فتهافتوا في العتيق ، فوخزهم المسلمون برماحهم ، فما أفلت مخبر ، وهم ثلاثون ألفا . وأخذ ضرار بن الخطاب " درقش كابيان " ، وهو العلم الأكبر الذي كان للفرس ، فعوض منه ثلاثين ألفا ، وكانت قيمته ألف ألف ومائتي ألف . وقتلوا في المعركة عشرة آلاف سوى من قتلوا في الأيام قبله ، وقتل من المسلمين قبل ليلة الهرير ألفان وخمسمائة ، وقتل ليلة الهرير ويوم القادسية ستة آلاف ، فدفنوا في الخندق حيال مشرق ، ودفن ما كان قبل ليلة الهرير على مشرق ، وجمعت الأسلاب والأموال فجمع منها شيء لم يجمع قبله ولا بعده مثله .

وأرسل سعد إلى هلال فسأله عن رستم ، فأحضره ، فقال : جرده إلا ما شئت . [ ص: 314 ] فأخذ سلبه فلم يدع عليه شيئا . وأمر القعقاع ، وشرحبيل باتباعهم ، حتى بلغا مقدار الخرارة من القادسية ، وخرج زهرة بن الحوية التميمي في أثارهم ، في ثلاثمائة فارس ، ثم أدركه الناس فلحق المنهزمين والجالينوس يجمعهم ، فقتله زهرة وأخذ سلبه ، وقتلوا ما بين الخرارة إلى السيلحين إلى النجف ، وعادوا من أثر المنهزمين ومعهم الأسرى ، فرئي شباب من النخع وهو يسوق ثمانين رجلا أسرى من الفرس .

واستكثر سعد سلب الجالينوس ، فكتب فيه إلى عمر . فكتب عمر إلى سعد : تعمد إلى مثل زهرة وقد صلي بمثل ما صلي به ، وقد بقي عليك من حربك ما بقي ، تفسد قلبه ، أمض له سلبه وفضله على أصحابه عند عطائه بخمسمائة .

ولما اتبع المسلمون الفرس كان الرجل يشير إلى الفارسي فيأتيه فيقتله ، وربما أخذ سلاحه فقتله به ، وربما أمر رجلين فيقتل أحدهما صاحبه .

ولحق سلمان بن ربيعة الباهلي ، وعبد الرحمن بن ربيعة بطائفة منهم قد نصبوا راية وقالوا : لا نبرح حتى نموت ، فقتلهم سلمان ومن معه . وكان قد ثبت بعد الهزيمة بضع وثلاثون كتيبة استحيوا من الفرار ، وقصدهم بضعة وثلاثون من رؤساء المسلمين ، لكل كتيبة منها رئيس . وكان قتال أهل الكتائب من الفرس على وجهين ، منهم من هرب ، ومنهم من ثبت حتى قتل ، وكان ممن هرب من أمراء الكتائب الهرمزان ، وكان بإزاء عطارد ، ومنهم أهوذ ، وكان بإزاء حنظلة بن الربيع ، وهو كاتب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنهم زاد بن بهيش ، وكان بإزاء عاصم بن عمرو ، ومنهم قارن ، وكان بإزاء القعقاع ; وكان ممن ثبت وقتل شهريار بن كنارا ، وكان بإزاء سلمان بن ربيعة ، وابن الهربذ ، وكان بإزاء عبد الرحمن بن ربيعة ، والفرخان الأهوازي ، وكان بإزاء بسر بن أبي رهم الجهني ، ومنهم خشدسوم الهمذاني ، وكان بإزاء ابن الهذيل الكاهلي .

[ ص: 315 ] وتراجع الناس من طلب المنهزمين ، وقد قتل مؤذنهم ، فتشاج المسلمون في الأذان حتى كادوا يقتتلون ، وأقرع سعد بينهم فخرج سهم رجل ، فأذن .

وفضل أهل البلاء من أهل القادسية عند العطاء بخمسمائة خمسمائة ، وهم خمسة وعشرون رجلا ، منهم : زهرة وعصمة الضبي والكلج ، وأما أهل الأيام قبلها فإنهم فرض لهم على ثلاثة آلاف ، فضلوا على أهل القادسية ، فقيل لعمر : لو ألحقت بهم أهل القادسية . فقال : لم أكن لألحق بهم من لم يدركهم . وقيل له : لو فضلت من بعدت داره على من قاتلهم بفنائه . قال : كيف أفضل عليهم وهم شجن العدو ! فهلا فعل المهاجرون بالأنصار هذا !

وكانت العرب تتوقع وقعة العرب وأهل فارس بالقادسية ، فيما بين العذيب إلى عدن أبين ، وفيما بين الأبلة وأيلة ، يرون أن ثبات ملكهم وزاوله بها ; وكانت في كل بلد مصيخة إليها ، تنظر ما يكون من أمرها . فلما كانت وقعة القادسية سارت بها الجن ، فأتت بها أناسا من الإنس ، فسبقت أخبار الإنس [ إليهم ] .

وكتب سعد إلى عمرو بالفتح ، وبعدة من قتلوا ، وبعدة من أصيب من المسلمين - وسمى من يعرف - مع سعد بن عميلة الفزاري . وكان عمر يسأل الركبان من حين يصبح إلى انتصاف النهار عن أهل القادسية ، ثم يرجع إلى أهله ومنزله ، قال : فلما لقي البشير سأله من أين ؟ فأخبره ، قال : يا عبد الله حدثني . قال : هزم الله المشركين . وعمر يخب معه يسأله ، والآخر يسير على ناقته ، لا يعرفه حتى دخل المدينة ، وإذا الناس يسلمون عليه بإمرة المؤمنين ، قال البشير : هلا أخبرتني - رحمك الله - أنك أمير المؤمنين ! فقال عمر : لا بأس عليك يا أخي .

وأقام المسلمون بالقادسية في انتظار قدوم البشير ، وأمر عمر الناس أن يقوموا على أقباضهم ، ويصلحوا أحوالهم ، ويتابع إليهم أهل الشام ممن شهد اليرموك ودمشق ممدين لهم ، وجاء أولهم يوم أغواث ، وآخرهم بعد الغد يوم الفتح ، فكتبوا فيهم إلى عمر يسألونه [ ص: 316 ] عما ينبغي أن يشار فيه مع نذير بن عمرو .

وقيل : كانت وقعة القادسية سنة ست عشرة ، قال : وكان بعض أهل الكوفة يقول : إنها كانت سنة خمس عشرة ، وقد تقدم أنها كانت سنة أربع عشرة

( حميضة بن النعمان : بضم الحاء المهملة ، وفتح الميم ، وبالضاد المعجمة . بسر بن أبي رهم : بضم الباء الموحدة ، وسكون السين المهملة . والحوية : بفتح الحاء المهملة ، وكسر الواو ، وقيل بالجيم المضمومة ، وفتح الواو ، والأول أصح . وحمال : بفتح الحاء المهملة ، وتشديد الميم . والمعنى : بضم الميم ، وفتح العين المهملة ، والنون المشددة . وحصين بن نمير : بضم الحاء ، وفتح الصاد . ومعاوية بن حديج : بضم الحاء ، وفتح الدال المهملتين ، وآخره جيم . والمعتم : بضم الميم ، وسكون العين المهملة ، وفتح التاء فوقها نقطتان ، وآخره ميم مشددة . وصرار : بكسر الصاد المهملة ، وبالرائين المهملتين بينهما ألف : موضع عند المدينة . وصنين بكسر الصاد المهملة ، والنون المشددة بعدها ياء ساكنة معجمة باثنتين من تحتها ، وآخره نون : موضع من ناحية الكوفة ) .

انتهى خبر القادسية .

التالي السابق


الخدمات العلمية