صفحة جزء
ذكر فتح المدائن التي فيها إيوان كسرى

وكان فتحها في صفر أيضا سنة ست عشرة ، قيل : وأقام سعد ببهرسير أياما من [ ص: 339 ] صفر ، فأتاه علج فدله على مخاضة تخاض إلى صلب الفرس ، فأبى وتردد عن ذلك ، وقحمهم المد ، وكانت السنة كثيرة المدود ، ودجلة تقذف بالزبد ، فأتاه علج فقال : ما يقيمك ؟ لا يأتي عليك ثلاثة حتى يذهب يزدجرد بكل شيء في المدائن . فهيجه ذلك على العبور ، ورأوا رؤيا : أن خيول المسلمين اقتحمت دجلة فعبرت ، فعزم سعد لتأويل الرؤيا ، فجمع الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن عدوكم قد اعتصم منكم بهذا البحر ، فلا تخلصون إليه معه ويخلصون إليكم إذا شاءوا في سفنهم فيناوشونكم ، وليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا منه ، قد كفاكم أهل الأيام وعطلوا ثغورهم ، وقد رأيت من الرأي أن تجاهدوا العدو قبل أن تحصدكم الدنيا ، ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم .

فقالوا جميعا : عزم الله لنا ولك على الرشد فافعل . فندب الناس إلى العبور وقال : من يبدأ ويحمي لنا الفراض حتى تتلاحق به الناس لكيلا يمنعوهم من العبور ؟ فانتدب له عاصم بن عمرو ذو البأس ، في ستمائة من أهل النجدات ، فاستعمل عليهم عاصما ، فتقدمهم عاصم في ستين فارسا ، وجعلهم على خيل ذكور وإناث ليكون أسلس لسباحة الخيل ، ثم اقتحموا دجلة . فلما رآهم الأعاجم وما صنعوا أخرجوا للخيل التي تقدمت مثلها فاقتحموا عليهم دجلة ، فلقوا عاصما وقد دنا من الفراض . فقال عاصم : الرماح الرماح ! أشرعوها وتوخوا العيون . فالتقوا فاطعنوا ، وتوخى المسلمون عيونهم فولوا ، ولحقهم المسلمون فقتلوا أكثرهم ، ومن نجا منهم صار أعور من الطعن ، وتلاحق الستمائة بالستين غير متعبين .

ولما رأى سعد عاصما على الفراض قد منعها ، أذن للناس في الاقتحام وقال : قولوا نستعين بالله ونتوكل عليه ، حسبنا الله ونعم الوكيل ، والله لينصرن الله وليه وليظهرن دينه وليهزمن عدوه ، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ! . وتلاحق الناس في دجلة وإنهم يتحدثون كما يتحدثون في البر ، وطبقوا دجلة حتى ما يرى من الشاطئ شيء . وكان الذي يساير سعدا سلمان الفارسي ، فعامت بهم خيولهم ، وسعد يقول : حسبنا الله ونعم الوكيل ، والله لينصرن الله وليه ، وليظهرن دينه وليهزمن عدوه إن لم يكن في الجيش [ ص: 340 ] بغي أو ذنوب تغلب الحسنات ، فقال له سلمان : الإسلام جديد ، ذللت لهم البحور كما ذلل لهم البر ، أما والذي نفس سلمان بيده ليخرجن منه أفواجا كما دخلوا فيه أفواجا . فخرجوا منه كما قال سلمان لم يفقدوا شيئا ، إلا أن مالك بن عامر العنبري سقط منه قدح فذهبت به جرية الماء ، فقال له الذي يسايره معيرا له : أصابه القدر فطاح . فقال : والله إني لعلى حالة ما كان الله ليسلبني قدحي من بين العسكرين . فلما عبروا ألقته الريح إلى الشاطئ فتناوله بعض الناس وعرفه صاحبه فأخذه . ولم يغرق منهم أحد غير أن رجلا من بارق يدعى غرقدة زال عن ظهر فرس له أشقر ، فثنى القعقاع عنان فرسه إليه فأخذ بيده فأخرجه سالما . وخرج الناس سالمين وخيلهم تنفض أعرافها .

فلما رأى الفرس ذلك ، وأتاهم أمر لم يكن في حسابهم خرجوا هاربين نحو حلوان ، وكان يزدجرد قد قدم عياله إلى حلوان قبل ذلك ، وخلف مهران الرازي والنخيرخان ، وكان على بيت المال بالنهروان ، وخرجوا معهم بما قدروا عليه من خير متاعهم وخفيفه ، وما قدروا عليه من بيت المال ، وبالنساء والذراري ، وتركوا في الخزائن من الثياب والمتاع والآنية والفصوص والألطاف ما لا يدرى قيمته ، وخلفوا ما كانوا أعدوا للحصار من البقر والغنم والأطعمة . وكان في بيت المال ثلاثة آلاف ألف ألف ألف ، ثلاث مرات ، أخذ منهارستم عند مسيره إلى القادسية النصف وبقي النصف . وكان أول من دخل المدائن كتيبة الأهوال ، وهي كتيبة عاصم بن عمرو ، ثم كتيبة الخرساء ، وهي كتيبة القعقاع بن عمرو ، فأخذوا في سككها لا يلقون فيها أحدا يخشونه إلا من كان في القصر الأبيض ، فأحاطوا بهم ودعوهم فاستجابوا على تأدية الجزية والذمة ، فتراجع إليهم أهل المدائن على مثل عهدهم ليس في ذلك ما كان لآل كسرى .

[ ص: 341 ] ونزل سعد القصر الأبيض ، وسرح سعد زهرة في آثارهم إلى النهروان ، ومقدار ذلك من كل جهة .

وكان سلمان الفارسي رائد المسلمين وداعيتهم ، دعا أهل بهرسير ثلاثا وأهل القصر الأبيض ثلاثا ، واتخذ سعد إيوان كسرى مصلى ولم يغير ما فيه من التماثيل .

ولم يكن بالمدائن أعجب من عبور الماء ، وكان يدعى يوم الجراثيم ، لا يبغي أحد إلا اشمخرت له جرثومة من الأرض يستريح عليها ما يبلغ الماء حزام فرسه ، ولذلك يقول أبو بجيد نافع بن الأسود :

وأسلنا على المدائن خيلا بحرها مثل برهن أريضا

فانتثلنا خزائن المرء كسرى يوم ولوا وخاض منها جريضا

ولما دخل سعد الإيوان قرأ : كم تركوا من جنات وعيون وزروع إلى قوله : قوما آخرين ، وصلى فيه صلاة الفتح ثماني ركعات لا يفصل بينهن ولا يصلي جماعة ، وأتم الصلاة لأنه نوى الإقامة ، وكانت أول جمعة بالعراق ، وجمعت بالمدائن في صفر سنة ست عشرة .

ولما سار المسلمون وراءهم أدرك رجل من المسلمين فارسيا يحمي أصحابه ، فضرب فرسه ليقدم على المسلم ، فأحجم وأراد الفرار فتقاعس ، فأدركه المسلم فقتله وأخذ سلبه .

وأدرك رجل آخر من المسلمين جماعة من الفرس يتلاومون ، وقد نصبوا لأحدهم كرة ، وهو يرميها لا يخطئها ، فرجعوا فلقيهم المسلم ، فتقدم إليه ذلك الفارسي فرماه بأقرب مما كانت الكرة فلم يصبه ، فوصل المسلم إليه فقتله وهرب أصحابه .

[ ص: 342 ] ( أبو بجيد بضم الباء الموحدة : وفتح الجيم ، وبعدها ياء تحتها نقطتان ، ودال مهملة ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية