صفحة جزء
[ ص: 383 ] 20

ثم دخلت سنة عشرين

ذكر فتح مصر

قيل : في هذه السنة فتحت مصر في قول بعضهم ، على يد عمرو بن العاص والإسكندرية أيضا .

وقيل : فتحت الإسكندرية سنة خمس وعشرين ، وقيل : فتحت مصر سنة ست عشرة في ربيع الأول ، وبالجملة فينبغي أن يكون فتحها قبل عام الرمادة ، لأن عمرو بن العاص حمل الطعام في بحر القلزم من مصر إلى المدينة ، والله أعلم ، وقيل غير ذلك .

وأما فتحها فإنه لما فتح عمر بيت المقدس وأقام به أياما ، وأمضى عمرو بن العاص إلى مصر ، واتبعه الزبير بن العوام ، فأخذ المسلمون باب اليون ، وساروا إلى مصر ، فلقيهم هناك أبو مريم ، جاثليق مصر ، ومعه الأسقف بعثه المقوقس لمنع بلادهم ، فلما نزل بهم عمرو قاتلوه ، فأرسل إليهم : لا تعجلونا حتى نعذر إليكم ، وليبرز إلي أبو مريم وأبو مريام ، فكفوا ، وخرجا إليه ، فدعاهما إلى الإسلام أو الجزية ، وأخبرهما بوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بأهل مصر بسبب هاجر أم إسماعيل - عليه السلام - فقالوا : قرابة بعيدة لا يصل مثلها إلا الأنبياء ، آمنا حتى نرجع إليك . فقال عمرو : مثلي لا يخدع ، ولكني أؤجلكما ثلاثا لتنظرا . فقالا : زدنا ، فزادهما يوما ، فرجعا إلى المقوقس . فأبى أرطبون أن يجيبهما وأمر بمناهدتهم . فقال لأهل مصر : أما نحن فسنجهد أن ندفع عنكم . فلم يفجأ عمرا إلا البيات وهو على عدة ، فلقوه فقتل أرطبون وكثير ممن معه وانهزم الباقون ، وسار عمرو والزبير إلى عين الشمس وبها جمعهم ، وبعث إلى فرما أبرهة بن [ ص: 384 ] الصباح ، وبعث عوف بن مالك إلى الإسكندرية فنزل عليها . قيل : وكان الإسكندر وفرما أخوين ، ونزل عمرو بعين الشمس ، فقال أهل مصر لملكهم : ما تريد إلى قتال قوم هزموا كسرى وقيصر ، وغلبوهم على بلادهم ! فلا تعرض لهم ولا تعرضنا [ لهم ] - وذلك في اليوم الرابع - [ فأبى ] وناهدوهم وقاتلوهم .

فلما التقى المسلمون والمقوقس بعين الشمس واقتتلوا جال المسلمون ، فذمرهم عمرو ، فقال له رجل من اليمن : إنا لم نخلق من حديد . فقال له عمرو : اسكت ، إنما أنت كلب . قال : فأنت أمير الكلاب . فنادى عمرو بأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فأجابوه ، فقال : تقدموا فبكم ينصر الله ، فتقدموا وفيهم أبو بردة وأبو برزة وتبعهم الناس ، وفتح الله على المسلمين وظفروا وهزموا المشركين ، فارتقى الزبير بن العوام سورها ، فلما أحسوه فتحوا الباب لعمرو ، وخرجوا إليه مصالحين ، فقبل منهم .

ونزل الزبير عليهم عنوة ، حتى خرج على عمرو من الباب معهم ، فاعتقدوا صلحا بعدما أشرفوا على الهلكة ، فأجروا ما أخذوا عنوة مجرى الصلح ، فصاروا ذمة ، وأجروا من دخل في صلحهم من الروم والنوبة مجرى أهل مصر ، ومن اختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه .

واجتمعت خيول المسلمين بمصر ، وبنوا الفسطاط ونزلوه ، وجاء أبو مريم وأبو مريام إلى عمرو ، وطلبا منه السبايا التي أصيبت بعد المعركة ، فطردهما ، فقالا : كل شيء أصبتموه منذ فارقناكم إلى أن رجعنا إليكم ففي ذمة . فقال عمرو لهما : أتغيرون علينا وتكونون في ذمة ؟ قالا : نعم . فقسم عمرو بن العاص السبي على الناس ، وتفرق في بلدان العرب . وبعث بالأخماس إلى عمر بن الخطاب ومعها وفد ، فأخبروا عمر بن الخطاب بحالهم كله وبما قال أبو مريم ، فرد عمر عليهم سبي من لم يقاتلهم في تلك الأيام الأربعة ، وترك سبي من قاتلهم فردوهم .

وحضرت القبط باب عمرو ، وبلغ عمرا أنهم يقولون : ما أرث العرب ! ما رأينا مثلنا دان لهم . فخاف أن يطمعهم ذلك ، فأمر بجزر فطبخت ودعا أمراء الأجناد فأعلموا أصحابهم ، فحضروا عنده وأكلوا أكلا عربيا ، انتشلوا وحسوا وهم في العباء بغير [ ص: 385 ] سلاح ، فازداد طمعهم ، وأمر المسلمين [ أن ] يحضروا الغد في ثياب [ أهل ] مصر وأحذيتهم ، ففعلوا ، وأذن لأهل مصر ، فرأوا شيئا غير ما رأوا بالأمس ، وقام عليهم القوام بألوان مصر ، فأكلوا أكل أهل مصر ، فارتاب القبط ، وبعث أيضا إلى المسلمين : تسلحوا للعرض غدا ، وغدا على العرض ، وأذن لهم فعرضهم عليهم وقال لهم : علمت حالكم حين رأيتم اقتصاد العرب ، فخشيت أن تهلكوا ، فأحببت أن أريكم حالهم في أرضهم كيف كانت ، ثم حالهم في أرضكم ، ثم حالهم في الحرب ، فقد رأيتم ظفرهم بكم وذلك عيشهم ، وقد كلبوا على بلادكم بما نالوا في اليوم الثاني ، فأردت أن تعلموا أن ما رأيتم في اليوم الثالث غير تارك عيش اليوم الثاني ، وراجع إلى عيش اليوم الأول .

فتفرقوا وهم يقولون : لقد رمتكم العرب برجلهم .

وبلغ عمر ذلك فقال : والله إن حربه للينة ما لها سطوة ولا سورة كسورات الحروب من غيره .

ثم إن عمرا سار إلى الإسكندرية ، وكان من بين الإسكندرية والفسطاط من الروم والقبط قد تجمعوا له وقالوا : نغزوه قبل أن يغزونا ويروم الإسكندرية . فالتقوا واقتتلوا ، فهزمهم وقتل منهم مقتلة عظيمة ، وسار حتى بلغ الإسكندرية ، فوجد أهلها معدين لقتاله . فأرسل المقوقس إلى عمرو يسأله الهدنة إلى مدة ، فلم يجبه إلى ذلك وقال : لقد لقينا ملككم الأكبر هرقل فكان منه ما بلغكم . فقال المقوقس لأصحابه : صدق فنحن أولى بالإذعان . فأغلظوا له في القول وامتنعوا ، فقاتلهم المسلمون وحصروهم ثلاثة أشهر ، وفتحها عمرو عنوة وغنم ما فيها وجعلهم ذمة .

وقيل : إن المقوقس صالح عمرا على اثني عشر ألف دينار ، على أن يخرج من الإسكندرية من أراد الخروج ويقيم من أراد القيام ، وجعل فيها عمرو جندا .

ولما فتحت مصر غزوا النوبة ، فرجع المسلمون بالجراحات وذهاب الحدق لجودة [ ص: 386 ] رميهم ، فسموهم رماة الحدق .

فلما ولي عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر أيام عثمان صالحهم على هدية عدة رءوس في كل سنة ، ويهدي إليهم المسلمون كل سنة طعاما مسمى وكسوة ، وأمضى ذلك الصلح عثمان ومن بعده من ولاة الأمور .

وقيل : إن المسلمين لما انتهوا إلى بلهيب وقد بلغت سباياهم إلى اليمن ، أرسل صاحبهم إلى عمرو : إنني كنت أخرج الجزية إلى من هو أبغض إلي منكم : فارس والروم ، فإن أحببت الجزية على أن ترد ما سبيتم من أرضي فعلت . فكتب عمرو إلى عمر يستأذنه في ذلك ، ورفعوا الحرب إلى أن يرد كتاب عمر . فورد الجواب من عمر : لعمري جزية قائمة أحب إلينا من غنيمة تقسم ، ثم كأنها لم تكن ، وأما السبي فإن أعطاك ملكهم الجزية على أن تخيروا من في أيديكم منهم بين الإسلام ودين قومه ، فمن اختار الإسلام فهو من المسلمين ، ومن اختار دين قومه فضع عليه الجزية ، وأما من تفرق في البلدان فإنا لا نقدر على ردهم . فعرض عمرو ذلك على صاحب الإسكندرية ، فأجاب إليه ، فجمعوا السبي ، واجتمعت النصارى وخيروهم واحدا واحدا ، فمن اختار المسلمين كبروا ، ومن اختار النصارى نخروا وصار عليه جزية ، حتى فرغوا .

وكان من السبي أبو مريم عبد الله بن عبد الرحمن ، فاختار الإسلام وصار عريف زبيد .

وكان ملوك بني أمية يقولون : إن مصر دخلت عنوة وأهلها عبيدنا نزيد عليهم كيف شئنا . ولم يكن كذلك .

ذكر عدة حوادث

وفي هذه السنة ، أعني سنة عشرين ، غزا أبو بحرية عبد الله بن قيس أرض الروم ، [ ص: 387 ] وهو أول من دخلها فيما قيل ، وقيل : أول من دخلها ميسرة بن مسروق العبسي وغنم .

وقيل : فيها عزل عمر قدامة بن مظعون من البحرين وحده في الخمر ، واستعمل أبا بكرة على البحرين واليمامة .

وفيها تزوج عمر فاطمة بنت الوليد أم عبد الرحمن بن الحارث بن هشام .

وفيها عزل عمر سعد بن أبي وقاص عن الكوفة لشكايتهم إياه وقالوا : لا يحسن يصلي .

وفيها قسم عمر خيبر بين المسلمين وأجلى اليهود عنها وقسم وادي القرى .

وفيها أجلى يهود نجران إلى الكوفة .

وفيها بعث عمر علقمة بن مجزز المدلجي إلى الحبشة ، وكانت تطرقت بلاد الإسلام فأصيب المسلمون ، فجعل عمر على نفسه أن لا يحمل في البحر أحدا أبدا - يعني للغزو - ، وقيل سنة إحدى وثلاثين .

( مجزز : بجيم وزايين الأولى مكسورة مشددة ) .

[ الوفيات ]

وفيها مات أسيد بن حضير - أسيد تصغير أسد - ، وحضير بالحاء المهملة [ ص: 388 ] المضمومة ، والضاد المفتوحة ، والراء .

وفيها مات هرقل وملك ابنه قسطنطين .

وفيها ماتت زينب بنت جحش ، ونزل في قبرها أسامة بن زيد وابن أخيها محمد بن عبد الله بن جحش .

وحج بالناس عمر . وكان عماله على الأمصار من كان قبل هذه السنة إلا من ذكرت أنه عزله . وكان قضاته فيها القضاة في السنة قبلها .

وفيها مات عياض بن غنم ، وهو الذي فتح الجزيرة ، وهو أول من جاز الدرب إلى الروم .

وفيها مات بلال بن رباح مؤذن النبي - صلى الله عليه وسلم - بدمشق ، وقيل بحلب .

[ ص: 389 ] وفيها مات أنيس بن مرثد بن أبي مرثد الغنوي ، وله ولأبيه ولجده صحبة ، وقتل أبوه في غزوة الرجيع .

وفيها مات سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي ، شهد فتح خيبر ، وكان فاضلا ، وكان على حمص حتى مات ، وقيل : مات سنة تسع عشرة ، وقيل : سنة إحدى وعشرين وعمره أربعون سنة .

وفيها مات أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب .

وفيها ماتت صفية بنت عبد المطلب عمة النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وفيها قتل المظهر بن رافع الأنصاري ، قدم من الشام ومعه من علوج الشام ، فلما كان بخيبر أمرهم قوم من اليهود فقتلوهم ، فأجلاهم عمر .

( المظهر : بضم الميم ، وفتح الظاء المعجمة ، وتشديد الهاء ، وآخره راء مهملة . )

التالي السابق


الخدمات العلمية