صفحة جزء
[ ص: 390 ] 21

ثم دخلت سنة إحدى وعشرين

ذكر وقعة نهاوند

قيل : فيها كانت وقعة نهاوند ، وقيل : كانت سنة ثماني عشرة ، وقيل سنة تسع عشرة .

وكان الذي هيج أمر نهاوند أن المسلمين لما خلصوا جند العلاء من بلاد فارس وفتحوا الأهواز كاتبت الفرس ملكهم وهو بمرو فحركوه ، وكاتب الملوك بين الباب والسند وخراسان وحلوان ، فتحركوا وتكاتبوا واجتمعوا إلى نهاوند ، ولما وصلها أوائلهم بلغ سعدا الخبر ، فكتب إلى عمر ، وثار بسعد قوم سعوا به وألبوا عليه ، ولم يشغلهم ما نزل بالناس ; وكان ممن تحرك في أمره الجراح بن سنان الأسدي في نفر . فقال لهم عمر : والله ما يمنعني ما نزل بكم من النظر فيما لديكم . فبعث عمر محمد بن مسلمة والناس في الاستعداد للفرس ، وكان محمد صاحب العمال يقتص آثار من شكا زمان عمر ، فطاف بسعد على أهل الكوفة يسأل عنه ، فما سأل عنه جماعة إلا أثنوا عليه خيرا سوى من مالأ الجراح الأسدي ، فإنهم سكتوا ولم يقولوا سوءا ولا يسوغ لهم ، حتى انتهى إلى بني [ ص: 391 ] عبس فسألهم ، فقال أسامة بن قتادة : اللهم إنه لا يقسم بالسوية ، ولا يعدل في القضية ، ولا يغزو في السرية . فقال سعد : اللهم إن كان قالها رياء وكذبا وسمعة فأعم بصره ، وأكثر عياله ، وعرضه لمضلات الفتن . فعمي ، واجتمع عنده عشر بنات ، وكان يسمع بالمرأة فيأتيها حتى يجسها ، فإذا عثر عليه قال : دعوة سعد الرجل المبارك . ثم دعا سعد على أولئك النفر فقال : اللهم إن كانوا خرجوا أشرا وبطرا ورياء فاجهد بلادهم . فجهدوا ، وقطع الجراح بالسيوف يوم بادر الحسن بن علي - عليه السلام - ليغتاله بساباط ، وشدخ قبيصة بالحجارة ، وقتل أربد بالوجء ونعال السيوف .

وقال سعد : إني أول رجل أهراق دما من المشركين ، ولقد جمع لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبويه وما جمعهما لأحد قبلي ، ولقد رأيتني خمس الإسلام ، وبنو أسد تزعم أني لا أحسن أصلي وأن الصيد يلهيني .

وخرج محمد بسعد وبهم معه إلى المدينة ، فقدموا على عمر فأخبروه الخبر فقال : كيف تصلي يا سعد ؟ قال أطيل الأوليين وأحذف الأخريين . فقال : هكذا الظن بك يا أبا إسحاق ولولا الاحتياط لكان سبيلهم بينا . وقال : من خليفتك يا سعد على الكوفة ؟ [ ص: 392 ] فقال عبد الله بن عبد الله بن عتبان . فأقره . فكان سبب نهاوند وبعثها زمن سعد .

وأما الوقعة فهي زمن عبد الله ، فنفرت الأعاجم بكتاب يزدجرد ، فاجتمعوا بنهاوند على الفيرزان في خمسين ألفا ومائة ألف مقاتل ، وكان سعد كتب إلى عمر بالخبر ثم شافهه به لما قدم عليه وقال له : إن أهل الكوفة يستأذنونك في الانسياح وأن يبدءوهم بالشدة ليكون أهيب لهم على عدوهم .

فجمع عمر الناس واستشارهم ، وقال لهم : هذا يوم له ما بعده ، وقد هممت أن أسير فيمن قبلي ومن قدرت عليه فأنزل منزلا وسطا بين هذين المصرين ثم أستنفرهم وأكون لهم ردءا حتى يفتح الله عليهم ويقضي ما أحب ، فإن فتح الله عليهم صببتهم في بلدانهم .

فقال طلحة بن عبيد الله : يا أمير المؤمنين قد أحكمتك الأمور ، وعجمتك البلابل ، واحتنكتك التجارب ، وأنت وشأنك ورأيك ، لا ننبو في يديك ولا نكل عليك ، إليك هذا الأمر ، فمرنا نطع ، وادعنا نجب واحملنا نركب ، وقدنا ننقد ، فإنك ولي هذا الأمر ، وقد بلوت وجربت واحتربت فلم ينكشف شيء من عواقب قضاء الله لك إلا عن خيارهم . ثم جلس .

فعاد عمر ، فقام عثمان فقال : أرى يا أمير المؤمنين أن تكتب إلى أهل الشام فيسيروا من شامهم ، وإلى أهل اليمن فيسيروا من يمنهم ، ثم تسير أنت بأهل الحرمين إلى الكوفة والبصرة فتلقى جمع المشركين بجمع المسلمين ، فإنك إذا سرت قل عندك ما قد تكاثر من عدد القوم ، وكنت أعز عزا وأكثر . يا أمير المؤمنين ، إنك لا تستبقي بعد نفسك من العرب باقية ، ولا تمتع من الدنيا بعزيز ، ولا تلوذ منها بحريز . إن هذا يوم له ما [ ص: 393 ] بعده من الأيام ، فاشهده برأيك وأعوانك ولا تغب عنه . وجلس .

فعاد عمر ، فقام إليه علي بن أبي طالب فقال : أما بعد يا أمير المؤمنين ، فإنك إن أشخصت أهل الشام من شامهم سارت الروم إلى ذراريهم ، وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم ، وإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها ، حتى يكون ما تدع وراءك أهم إليك مما بين يديك من العورات والعيالات ، أقرر هؤلاء في أمصارهم واكتب إلى أهل البصرة فليتفرقوا ثلاث فرق : فرقة في حرمهم وذراريهم ، وفرقة في أهل عهدهم حتى لا ينتقضوا ، ولتسر فرقة إلى إخوانهم بالكوفة مددا لهم ; إن الأعاجم إن ينظروا إليك غدا قالوا : هذا أمير المؤمنين أمير العرب وأصلها ، فكان ذلك أشد لكلبهم عليك . وأما ما ذكرت من مسير القوم فإن الله هو أكره لمسيرهم منك ، وهو أقدر على تغيير ما يكره ، وأما عددهم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة ولكن بالنصر .

فقال عمر : هذا هو الرأي ، كنت أحب أن أتابع عليه ، فأشيروا علي برجل أوليه .

وقيل : إن طلحة وعثمان وغيرهما أشاروا عليه بالمقام . والله أعلم .

فلما قال عمر : أشيروا علي برجل أوليه ذلك الثغر وليكن عراقيا ، قالوا : أنت أعلم بجندك وقد وفدوا عليك . فقال : والله لأولين أمرهم رجلا يكون أول الأسنة إذا لقيها غدا . فقيل : من هو ؟ فقال : هو النعمان بن مقرن المزني . فقالوا : هو لها .

وكان النعمان يومئذ معه جمع من أهل الكوفة قد اقتحموا جنديسابور والسوس . فكتب إليه عمر يأمره بالمسير إلى ماه لتجتمع الجيوش عليه ، فإذا اجتمعوا إليه سار بهم إلى الفيرزان ومن معه . وقيل بل كان النعمان بكسكر . فكتب إلى عمر يسأله أن يعزله ويبعثه إلى جيش من المسلمين . فكتب إليه عمر يأمره بنهاوند ، فسار .

فكتب عمر إلى عبد الله بن عبد الله بن عتبان ليستنفر الناس مع النعمان كذا وكذا [ ص: 394 ] ويجتمعوا عليه بماه . فندب الناس ، فكان أسرعهم إلى ذلك الروادف ليبلوا في الدين وليدركوا حظا .

فخرج الناس منها وعليهم حذيفة بن اليمان ومعه نعيم بن مقرن حتى قدموا على النعمان ، وتقدم عمر إلى الجند الذين كانوا بالأهواز ليشغلوا فارسا عن المسلمين وعليهم المقترب وحرملة وزر ، فأقاموا بتخوم أصبهان وفارس وقطعوا أمداد فارس عن أهل نهاوند ، واجتمع الناس على النعمان وفيهم حذيفة بن اليمان ، وابن عمر ، وجرير بن عبد الله البجلي ، والمغيرة بن شعبة ، وغيرهم ، فأرسل النعمان طليحة بن خويلد ، وعمروبن معد يكرب ، وعمروبن ثني - وهو ابن أبي سلمى - ليأتوه بخبرهم . وخرجوا وساروا يوما إلى الليل ، فرجع إليه عمروبن ثني ، فقالوا : ما رجعك ؟ فقال : لم أكن في أرض العجم ، وقتلت أرض جاهلها ، وقتل أرضا عالمها . ومضى طليحة وعمروبن معد يكرب . فلما كان آخر الليل رجع عمرو ، فقالوا : ما رجعك ؟ قال : سرنا يوما وليلة ولم نر شيئا فرجعت . ومضى طليحة حتى انتهى إلى نهاوند . وبين موضع المسلمين الذي هم به ونهاوند بضعة وعشرون فرسخا . فقال الناس : ارتد طليحة الثانية . فعلم كلام القوم ورجع . فلما رأوه كبروا . فقال : ما شأنكم ؟ فأعلموه بالذي خافوا عليه . فقال : والله لو لم يكن دين إلا العربي ما كنت لأجزر العجم الطماطم هذه العرب العاربة . فأعلم النعمان أنه ليس بينهم وبين نهاوند شيء يكرهه ولا أحد .

فرحل النعمان وعبى أصحابه ، وهم ثلاثون ألفا ، فجعل على مقدمته نعيم بن مقرن وعلى مجنبتيه حذيفة بن اليمان وسويد بن مقرن ، وعلى المجردة القعقاع بن عمرو ، وعلى الساقة مجاشع بن مسعود . وقد توافت إليه أمداد المدينة فيهم المغيرة بن شعبة ، فانتهوا إلى إسبيذهان والفرس وقوف على تعبيتهم ، وأميرهم الفيرزان وعلى [ ص: 395 ] مجنبتيه الزردق وبهمن جاذويه الذي جعل مكان ذي الحاجب . وقد توافى إليهم الأمداد بنهاوند ، كل من غاب عن القادسية ليسوا بدونهم ، فلما رآهم النعمان كبر وكبر معه الناس فتزلزلت الأعاجم وحطت العرب الأثقال ، وضرب فسطاط النعمان ، فابتدر أشراف الكوفة فضربوه ، منهم : حذيفة بن اليمان ، وعقبة بن عامر ، والمغيرة بن شعبة ، وبشير بن الخصاصية ، وحنظلة الكاتب ، وجرير بن عبد الله البجلي ، والأشعث بن قيس ، وسعيد بن قيس الهمداني ، ووائل بن حجر وغيرهم . فلم ير بناء فسطاط بالعراق كهؤلاء .

وأنشب النعمان القتال بعد حط الأثقال ، فاقتتلوا يوم الأربعاء ويوم الخميس والحرب بينهم سجال وإنهم انجحروا في خنادقهم يوم الجمعة ، وحصرهم المسلمون وأقاموا عليهم ما شاء الله ، والفرس بالخيار لا يخرجون إلا إذا أرادوا الخروج ، فخاف المسلمون أن يطول أمرهم ، حتى إذا كان ذات يوم في جمعة من الجمع تجمع أهل الرأي من المسلمين وقالوا : نراهم علينا بالخيار . وأتوا النعمان في ذلك فوافوه وهو يروي في الذي رووا فيه فأخبروه ، فبعث إلى من بقي من أهل النجدات والرأي فأحضرهم ، فتكلم النعمان فقال : قد ترون المشركين واعتصامهم بخنادقهم ومدنهم ، وأنهم لا يخرجون إلينا إلا إذا شاءوا ولا يقدر المسلمون على إخراجهم . وقد ترون الذي فيه المسلمون من التضايق ، فما الرأي الذي به نستخرجهم إلى المناجزة وترك التطويل ؟

فتكلم عمروبن ثني ، وكان أكبر الناس ، وكانوا يتكلمون على الأسنان ، فقال : التحصن عليهم أشد من المطاولة عليكم فدعهم وقاتل من أتاك منهم . فردوا عليه رأيه .

وتكلم عمروبن معد يكرب فقال : ناهدهم وكابرهم ولا تخفهم ، فردوا جميعا عليه رأيه وقالوا : إنما يناطح بنا الجدران وهي أعوان علينا .

وقال طليحة : أرى أن نبعث خيلا لينشبوا القتال ، فإذا اختلطوا بهم رجعوا إلينا استطرادا ، فإنا لم نستطرد لهم في طول ما قاتلناهم ، فإذا رأوا ذلك طمعوا وخرجوا [ ص: 396 ] فقاتلناهم حتى يقضي الله فيهم وفينا ما أحب .

فأمر [ النعمان ] القعقاع بن عمرو ، وكان على المجردة ، فأنشب القتال ، فأخرجهم من خنادقهم كأنهم جبال حديد قد تواثقوا أن لا يفروا ، وقد قرن بعضهم بعضا كل سبعة في قران ، وألقوا حسك الحديد خلفهم لئلا ينهزموا . فلما خرجوا نكص ثم نكص ، واغتنمها الأعاجم ففعلوا كما ظن طليحة وقالوا : هي هي ، فلم يبق أحد إلا من يقوم على الأبواب وركبوهم . ولحق القعقاع بالناس ، وانقطع الفرس عن حصنهم بعض الانقطاع والمسلمون على تعبية في يوم جمعة صدر النهار ، وقد عهد النعمان إلى الناس عهده ، وأمرهم أن يلزموا الأرض ولا يقاتلوا حتى يأذن لهم ، ففعلوا واستتروا بالحجف من الرمي ، وأقبل المشركون عليهم يرمونهم حتى أفشوا فيهم الجراح .

وشكا بعض الناس وقالوا للنعمان : ألا ترى ما نحن فيه فما تنتظر بهم ؟ ائذن للناس في قتالهم . فقال رويدا رويدا . وانتظر النعمان بالقتال أحب الساعات كانت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يلقى العدو فيها وذلك عند الزوال ، فلما كان قريبا من تلك الساعة ركب فرسه وسار في الناس ، ووقف على كل راية يذكرهم ويحرضهم ويمنيهم الظفر ، وقال لهم : إني مكبر ثلاثا ، فإذا كبرت الثالثة فإني حامل فاحملوا ، وإن قتلت فالأمير بعدي حذيفة ، فإن قتل ففلان ، حتى عد سبعة آخرهم المغيرة . ثم قال : اللهم أعزز دينك ، وانصر عبادك ، واجعل النعمان أول شهيد اليوم على إعزاز دينك ونصر عبادك .

وقيل : بل قال : اللهم إني أسألك أن تقر عيني اليوم بفتح يكون فيه عز الإسلام واقبضني شهيدا . فبكى الناس . ورجع إلى موقفه فكبر ثلاثا والناس سامعون مطيعون مستعدون للقتال ، وحمل النعمان والناس معه وانقضت رايته انقضاض العقاب والنعمان معلم ببياض القباء والقلنسوة ، فاقتتلوا قتالا شديدا لم يسمع السامعون بوقعة كانت أشد منها ، وما كان يسمع إلا وقع الحديد ، وصبر لهم المسلمون صبرا عظيما ، وانهزم الأعاجم وقتل منهم ما بين الزوال والإعتام ما طبق أرض المعركة دما يزلق الناس والدواب .

[ ص: 397 ] فلما أقر الله عين النعمان بالفتح استجاب له فقتل شهيدا ، زلق به فرسه فصرع . وقيل : بل رمي بسهم في خاصرته فقتله ، فسجاه أخوه نعيم بثوب ، وأخذ الراية وناولها حذيفة ، فأخذها وتقدم إلى موضع النعمان وترك نعيما مكانه . وقال لهم المغيرة : اكتموا مصاب أميركم حتى ننتظر ما يصنع الله فينا وفيهم لئلا يهن الناس . فاقتتلوا . فلما أظلم الليل عليهم انهزم المشركون وذهبوا ، ولزمهم المسلمون وعمي عليهم قصدهم فتركوه وأخذوا نحو اللهب الذي كانوا دونه بإسبيذهان فوقعوا فيه ، فكان الواحد منهم يقع فيقع عليه ستة بعضهم على بعضهم في قياد واحد فيقتلون جميعا ، وجعل يعقرهم حسك الحديد ، فمات منهم في اللهب مائة ألف أو يزيدون سوى من قتل في المعركة .

وقيل : قتل في اللهب ثمانون ألفا ، وفي المعركة ثلاثون ألفا ، سوى من قتل في الطلب ، ولم يفلت إلا الشريد ، ونجا الفيرزان من بين الصرعى فهرب نحو همذان ، فاتبعه نعيم بن مقرن ، وقدم القعقاع قدامه فأدركه بثنية همذان ، وهي إذ ذاك مشحونة من بغال وحمير موقرة عسلا ، فحبسه الدواب على أجله . فلما لم يجد طريقا نزل عن دابته وصعد في الجبل ، فتبعه القعقاع راجلا فأدركه فقتله المسلمون على الثنية وقالوا : إن لله جنودا من عسل . واستاقوا العسل وما معه من الأحمال . وسميت الثنية ثنية العسل .

ودخل المشركون همذان والمسلمون في آثارهم فنزلوا عليها وأخذوا ما حولها . فلما رأى ذلك خسروشنوم استأمنهم ، ولما تم الظفر للمسلمين جعلوا يسألون عن أميرهم النعمان بن مقرن ، فقال لهم أخوه معقل : هذا أميركم قد أقر الله عينه بالفتح وختم له بالشهادة فاتبعوا حذيفة .

ودخل المسلمون نهاوند يوم الوقعة بعد الهزيمة واحتووا ما فيها من الأمتعة وغيرها وما حولها من الأسلاب والأثاث وجمعوا إلى صاحب الأقباض السائب بن الأقرع . وانتظر من بنهاوند ما يأتيهم من إخوانهم الذين على همذان مع القعقاع ونعيم ، فأتاهم الهربذ صاحب بيت النار على أمان ، فأبلغ حذيفة ، فقال : أتؤمنني ومن شئت على أن أخرج لك ذخيرة لكسرى تركت عندي لنوائب الزمان ؟ قال : نعم . فأحضر جوهرا نفيسا في سفطين ، فأرسلهما مع الأخماس إلى عمر . وكان حذيفة قد نفل منها وأرسل الباقي مع السائب بن [ ص: 398 ] الأقرع الثقفي ، وكان كاتبا حاسبا ، أرسله عمر إليهم وقال له : إن فتح الله عليكم فاقسم على المسلمين فيئهم وخذ الخمس ، وإن هلك هذا الجيش فاذهب فبطن الأرض خير من ظهرها .

قال السائب : فلما فتح الله على المسلمين وأحضر الفارسي السفطين اللذين أودعهما عنده النخيرجان فإذا فيهما اللؤلؤ والزبرجد والياقوت ، فلما فرغت من القسمة احتملتهما معي وقدمت على عمر ، وكان قد قدر الوقعة فبات يتململ ويخرج ويتوقع الأخبار ، فبينما رجل من المسلمين قد خرج في بعض حوائجه فرجع إلى المدينة ليلا ، فمر به راكب فسأله : من أين أقبل ؟ فقال : من نهاوند ، وأخبره بالفتح وقتل النعمان ، فلما أصبح الرجل تحدث بهذا بعد ثلاث من الوقعة ، فبلغ الخبر عمر فسأله فأخبره ، فقال : ذلك بريد الجن .

ثم قدم البريد بعد ذلك فأخبره بما يسره ولم يخبره بقتل النعمان . قال السائب : فخرج عمر من الغد يتوقع الأخبار . قال : فأتيته فقال : ما وراءك ؟ فقلت : خيرا يا أمير المؤمنين ، فتح الله عليك وأعظم الفتح ، واستشهد النعمان بن مقرن . فقال عمر : إنا لله وإنا إليه راجعون . ثم بكى فنشج حتى بانت فروع كتفيه فوق كتده . قال : فلما رأيت ذلك وما لقي قلت : يا أمير المؤمنين ما أصيب بعده رجل يعرف وجهه . فقال : أولئك المستضعفون من المسلمين ولكن الذي أكرمهم بالشهادة يعرف وجوههم وأنسابهم ، وما يصنع أولئك بمعرفة عمر ! ثم أخبرته بالسفطين فقال : أدخلهما بيت المال حتى ننظر في شأنهما والحق بجندك . قال : ففعلت وخرجت سريعا إلى الكوفة .

وبات عمر ، فلما أصبح بعث في أثري رسولا ، فما أدركني حتى دخلت الكوفة فأنخت بعيري وأناخ بعيره على عرقوبي بعيري فقال : الحق بأمير المؤمنين ، فقد بعثني في طلبك فلم أقدر عليك إلا الآن . قال : فركبت معه فقدمت على عمر ، فلما رآني قال : إلي وما لي وللسائب ! قلت : ولماذا ؟ قال : ويحك والله ما هو إلا أن نمت الليلة التي خرجت فيها فباتت الملائكة تستحبني إلى السفطين يشتعلان نارا فيقولون : لنكوينك بهما ، فأقول : إني سأقسمهما بين المسلمين . فخذهما عني فبعهما في أعطية المسلمين [ ص: 399 ] وأرزاقهم . قال : فخرجت بهما فوضعتهما في مسجد الكوفة ، فابتاعهما مني عمروبن حريث المخزومي بألفي ألف درهم ، ثم خرج بهما إلى أرض الأعاجم فباعهما بأربعة آلاف ألف ، فما زال أكثر أهل الكوفة مالا . وكان سهم الفارس بنهاوند ستة آلاف وسهم الراجل ألفين .

ولما قدم سبي نهاوند المدينة جعل أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة لا يلقى منهم صغيرا إلا مسح رأسه وبكى وقال له : أكل عمر كبدي ! وكان من نهاوند فأسرته الروم وأسره المسلمون من الروم فنسب إلى حيث سبي .

وكان المسلمون يسمون فتح نهاوند فتح الفتوح لأنه لم يكن للفرس بعده اجتماع . وملك المسلمون بلادهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية