صفحة جزء
ذكر فتح خراسان

وفي هذه السنة غزا الأحنف بن قيس خراسان ، في قول بعضهم . وقيل : سنة ثماني عشرة .

وسبب ذلك أن يزدجرد لما سار إلى الري بعد هزيمة أهل جلولاء ، وانتهى إليها وعليها أبان جاذويه وثب عليه فأخذه . فقال يزدجرد : يا أبان تغدر بي ! قال : لا ولكن قد تركت ملكك ، فصار في يد غيرك ، فأحببت أن أكتتب على ما كان لي من شيء . وأخذ خاتم يزدجرد واكتتب الصكاك بكل ما أعجبه ، ثم ختم عليها ورد الخاتم ، ثم أتى بعد سعدا فرد عليه كل شيء في كتابه .

[ ص: 415 ] وسار يزدجرد من الري إلى أصبهان ، ثم منها إلى كرمان والنار معه ، ثم قصد خراسان فأتى مروا فنزلها وبنى للنار بيتا ، واطمأن وأمن أن يؤتى ، ودان له من بقي من الأعاجم . وكاتب الهرمزان وأثار أهل فارس ، فنكثوا ، وأثار أهل الجبال والفيرزان ، فنكثوا ، فأذن عمر للمسلمين فدخلوا بلاد الفرس ، فسار الأحنف إلى خراسان ، فدخلها من الطبسين ، فافتتح هراة عنوة ، واستخلف عليها صحار بن فلان العبدي ، ثم سار نحو مرو الشاهجان ، فأرسل إلى نيسابور مطرف بن عبد الله بن الشخير ، وإلى سرخس الحارث بن حسان ، فلما دنا الأحنف من مرو الشاهجان خرج منها يزدجرد إلى مرو الروذ حتى نزلها ، ونزل الأحنف مرو الشاهجان ، وكتب يزدجرد ، وهو بمرو الروذ ، إلى خاقان وإلى ملك الصغد وإلى ملك الصين يستمدهم . وخرج الأحنف من مرو الشاهجان واستخلف عليها حارثة بن النعمان الباهلي بعدما لحقت به أمداد أهل الكوفة ، وسار نحو مرو الروذ .

فلما سمع يزدجرد سار عنها إلى بلخ ، ونزل الأحنف مرو الروذ . وقدم أهل الكوفة إلى يزدجرد واتبعهم الأحنف ، فالتقى أهل الكوفة ويزدجرد ببلخ ، فانهزم يزدجرد وعبر النهر ، ولحق الأحنف بأهل الكوفة ، وقد فتح الله عليهم ، فبلخ من فتوحهم .

وتتابع أهل خراسان من هرب وشذ على الصلح فيما بين نيسابور إلى طخارستان ، وعاد الأحنف إلى مرو الروذ فنزلها ، واستخلف على طخارستان ربعي بن عامر ، وكتب الأحنف إلى عمر بالفتح ، فقال عمر : وددت أن بيننا وبينها بحرا من نار . فقال علي : ولم يا أمير المؤمنين ؟ قال : لأن أهلها سينفضون منها ثلاث مرات فيجتاحون في الثالثة ، فكان ذلك بأهلها أحب إلي من أن يكون بالمسلمين .

وكتب عمر إلى الأحنف أن يقتصر على ما دون النهر ولا يجوزه .

ولما عبر يزدجرد النهر مهزوما أنجده خاقان في الترك وأهل فرغانة والصغد ، فرجع يزدجرد وخاقان إلى خراسان فنزلا بلخ ، ورجع أهل الكوفة إلى الأحنف بمرو الروذ ، ونزل المشركون عليه بمرو أيضا .

وكان الأحنف لما بلغه خبر عبور يزدجرد وخاقان النهر إليه خرج ليلا يتسمع هل يسمع برأي ينتفع به ، فمر برجلين ينقيان علفا ، وأحدهما يقول لصاحبه : لو أسندنا الأمير إلى هذا الجبل ، فكان النهر بيننا وبين عدونا خندقا ، وكان الجبل في ظهورنا فلا يأتونا [ ص: 416 ] من خلفنا ، وكان قتالنا من وجه واحد رجوت أن ينصرنا الله . فرجع ، فلما أصبح جمع الناس ورحل بهم إلى سفح الجبل ، وكان معه من أهل البصرة عشرة آلاف ومن أهل الكوفة نحو منهم ، وأقبلت الترك ومن معها ، فنزلت وجعلوا يغادونهم القتال ويراوحونهم ، وفي الليل يتنحون عنهم .

فخرج الأحنف ليلة طليعة لأصحابه ، حتى إذا كان قريبا من عسكر خاقان وقف ، فلما كان وجه الصبح خرج فارس من الترك بطوقه ، فضرب بطبله ، ثم وقف من العسكر موقفا يقفه مثله ، فحمل عليه الأحنف فتقاتلا ، فطعنه الأحنف فقتله وأخذ طوق التركي ووقف ، فخرج آخر من الترك ففعل فعل صاحبه ، فحمل عليه الأحنف فتقاتلا ، فطعنه فقتله وأخذ طوقه ووقف ، ثم خرج الثالث من الترك ففعل فعل الرجلين ، فحمل عليه الأحنف فقتله ، ثم انصرف الأحنف إلى عسكره .

وكانت عادة الترك أنهم لا يخرجون حتى يخرج ثلاثة من فرسانهم أكفاء ، كلهم يضرب بطبله ، ثم يخرجون بعد خروج الثالث . فلما خرجوا تلك الليلة بعد الثالث فأتوا على فرسانهم مقتلين تشاءم خاقان وتطير فقال : قد طال مقامنا وقد أصيب فرساننا ، ما لنا في قتال هؤلاء القوم خير ; فرجعوا . وارتفع النهار للمسلمين ولم يروا منهم أحدا ، وأتاهم الخبر بانصراف خاقان والترك إلى بلخ ، وقد كان يزدجرد ترك خاقان مقابل المسلمين بمرو الروذ ، وانصرف إلى مرو الشاهجان ، فتحصن حارثة بن النعمان ومن معه ، فحصرهم واستخرج خزائنه من موضعها ، وخاقان مقيم ببلخ .

فلما جمع يزدجرد خزائنه ، وكانت كبيرة عظيمة ، وأراد أن يلحق بخاقان قال له أهل فارس : أي شيء تريد أن تصنع ؟ قال : أريد اللحاق بخاقان فأكون معه أو بالصين . قالوا له : إن هذا رأي سوء ، ارجع بنا إلى هؤلاء القوم فنصالحهم فإنهم أوفياء وهم أهل دين ، وإن عدوا يلينا في بلادنا أحب إلينا مملكة من عدو يلينا في بلاده ولا دين لهم ، ولا ندري ما وفاؤهم . فأبى عليهم . فقالوا : دع خزائننا نردها إلى بلادنا ومن يلينا لا تخرجها من بلادنا . فأبى ، فاعتزلوه وقاتلوه فهزموه وأخذوا الخزائن واستولوا عليها ، وانهزم منهم ولحق بخاقان ، وعبر النهر من بلخ إلى فرغانة ، وأقام يزدجرد ببلد الترك ، فلم يزل مقيما زمن عمر كله إلى أن كفر أهل خراسان زمن عثمان ، وكان يكاتبهم ويكاتبونه . وسيرد ذكر ذلك في موضعه .

ثم أقبل أهل فارس بعد رحيل يزدجرد على الأحنف ، فصالحوه ودفعوا إليه تلك الخزائن والأموال ، وتراجعوا إلى بلدانهم وأموالهم على أفضل ما كانوا عليه زمن الأكاسرة ، واغتبطوا بملك المسلمين . وأصاب الفارس يوم يزدجرد كسهمه يوم القادسية . [ ص: 417 ] وسار الأحنف إلى بلخ فنزلها بعد عبور خاقان النهر منها ، ونزل أهل الكوفة في كورها الأربع . ثم رجع إلى مرو الروذ فنزلها ، وكتب بفتح خاقان ويزدجرد إلى عمر .

ولما عبر خاقان ويزدجرد النهر لقيا رسول يزدجرد الذي أرسله إلى ملك الصين ، فأخبرهما أن ملك الصين قال له : صف لي هؤلاء القوم الذين أخرجوكم من بلادكم ، فإني أراك تذكر قلة منهم وكثرة منكم ، ولا يبلغ أمثال هؤلاء القليل منكم مع كثرتكم ، إلا بخير عندهم وشر فيكم . فقلت : سلني عما أحببت . فقال : أيوفون بالعهد ؟ قلت : نعم . قال : وما يقولون لكم قبل القتال ؟ قال قلت : يدعوننا إلى واحدة من ثلاث : إما دينهم ، فإن أجبنا أجرونا مجراهم ، أو الجزية والمنعة ، أو المنابذة . قال : فكيف طاعتهم أمراءهم ؟ قلت : أطوع قوم وأرشدهم . قال : فما يحلون وما يحرمون ؟ فأخبرته . قال : هل يحلون ما حرم عليهم أو يحرمون ما حلل لهم ؟ قلت : لا . قال : فإن هؤلاء القوم لا يزالون على ظفر حتى يحلوا حرامهم أو يحرموا حلالهم .

ثم قال : أخبرني عن لباسهم ؟ فأخبرته ، وعن مطاياهم ؟ فقلت : الخيل العراب ، ووصفتها له . فقال : نعمت الحصون ! ووصفت له الإبل وبروكها وقيامها بحملها . فقال : هذه صفة دواب طوال الأعناق . وكتب معه إلى يزدجرد : إنه لم يمنعني أن أبعث إليك بجند أوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بما يحق علي ، ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولك لو يحاولون الجبال لهدوها ، ولو خلا لهم سربهم أزالوني ما داموا على [ ما ] وصف ، فسالمهم وارض منهم بالمساكنة ، ولا تهيجهم ما لم يهيجوك . فأقام يزدجرد بفرغانة ومعه آل كسرى بعهد من خاقان .

ولما وصل خبر الفتح إلى عمر بن الخطاب جمع الناس ، وخطبهم وقرأ عليهم كتاب الفتح ، وحمد الله في خطبته على إنجاز وعده ، ثم قال : ألا وإن ملك المجوسية قد هلك ، فليسوا يملكون من بلادهم شبرا يضر بمسلم . ألا وإن الله قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم لينظر كيف تعملون ، فلا تبدلوا فيستبدل الله بكم غيركم ، فإني لا أخاف على هذه الأمة أن تؤتى إلا من قبلكم .

وقيل : إن فتح خراسان كان زمن عثمان ، وسيرد هناك .

التالي السابق


الخدمات العلمية