صفحة جزء
ذكر بعض سيرة عثمان

قال الحسن البصري : دخلت المسجد ، فإذا أنا بعثمان متكئا على ردائه ، فأتاه سقاءان يختصمان إليه ، فقضى بينهما . وقال الشعبي : لم يمت عمر بن الخطاب حتى ملته قريش وقد كان حصرهم بالمدينة ، وقال : أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد ، فإن كان الرجل منهم ليستأذنه في الغزو فيقول : قد كان لك في غزوك مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يبلغك ، وخير لك من غزوك اليوم أن لا ترى الدنيا ولا تراك . وكان يفعل هذا بالمهاجرين من قريش ولم يكن يفعله بغيرهم من أهل مكة . فلما ولي عثمان خلى عنهم فانتشروا في البلاد وانقطع إليهم الناس ، وكان أحب إليهم من عمر . قيل : وحج عثمان بالناس سنوات خلافته كلها ، وحج بأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كما كان يصنع عمر . وكتب إلى الأمصار أن يوافيه العمال في الموسم ومن يشكو منهم ، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ، وأنه مع الضعيف على القوي ما دام مظلوما .

وقيل : كان أول منكر ظهر بالمدينة حين فاضت الدنيا طيران الحمام والرمي على [ ص: 547 ] الجلاهقات ، وهي قوس البندق ، واستعمل عليها عثمان رجلا من بني ليث سنة ثمان من خلافته ، فقص الطيور وكسر الجلاهقات .

قيل : وسأل رجل سعيد بن المسيب عن محمد بن أبي حذيفة ما دعاه إلى الخروج على عثمان ، فقال : كان يتيما في حجر عثمان ، وكان والي أيتام أهل بيته ومحتملا كلهم ، فسأل عثمان العمل ، فقال : يا بني لو كنت رضا لاستعملتك . قال فأذن لي فأخرج فأطلب الرزق . قال : اذهب حيث شئت ، وجهزه من عنده وحمله وأعطاه ، فلما وقع إلى مصر كان فيمن أعان عليه حين منعه الإمارة . قال : وعمار بن ياسر ؟ قال : كان بينه وبين عباس بن عتبة بن أبي لهب كلام فضربهما عثمان فأورث ذلك تعاديا بين أهل عمار وأهل عباس ، وكانا تقاذفا .

قيل : سئل سالم بن عبد الله عن محمد بن أبي بكر ما دعاه إلى ركوب عثمان . قال : الغضب والطمع ، كان من الإسلام بمكان فغره أقوام فطمع ، وكانت له دالة فلزمه حق ، فأخذه عثمان من ظهره ، فاجتمع هذا إلى ذلك فصار مذمما بعد أن كان محمدا . قيل : واستخف رجل بالعباس بن عبد المطلب فضربه عثمان فاستحسن منه ذلك ، فقال : أيفخم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمه وأرخص في الاستخفاف به ! لقد خالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فعل ذلك ورضي به . قيل : وكان كعب بن ذي الحبكة النهدي يلعب بالنارنجيات ، فبلغ عثمان ، فكتب إلى الوليد أن يوجعه ضربا ، فعزره وأخبر الناس خبره ، وقرأ عليهم كتاب عثمان ، وفيه : إنه قد جد بكم فجدوا وإياكم والهزل . فغضب كعب وكان في الذين خرجوا عليه ، وكان سيره إلى دنباوند ، فقال في ذلك للوليد :


لعمري لئن طردتني ما إلى التي طمعت بها من سقطتي لسبيل     رجوت رجوعي يا ابن أروى ورجعتي
إلى الحق دهرا ، غال ذلك غول     فإن اغترابي في البلاد وجفوتي
وشتمي في ذات الإله قليل

[ ص: 548 ]     وإن دعائي كل يوم وليلة
عليك بدنباوندكم لطويل



قال : وأما ضابئ بن الحرث البرجمي فإنه استعار في زمن الوليد بن عقبة من قوم من الأنصار كلبا يدعى قرحان يصيد الظباء فحبسه عنهم ، فانتزعه الأنصاريون منه قهرا ، فهجاهم وقال :


تجشم دوني وفد قرحان خطة     تضل لها الوجناء وهي حسير
فباتوا شباعا طاعمين كأنما     حباهم ببيت المرزبان أمير
فكلبكم لا تتركوا فهو أمكم     فإن عقوق الأمهات كبير



فاستعدوا عليه عثمان ، فعزره وحبسه ، فما زال في السجن حتى مات فيه .

وقال في الفتك معتذرا إلى أصحابه :


هممت ولم أفعل وكدت وليتني     تركت على عثمان تبكي حلائله
وقائلة قد مات في السجن ضابئ     ألا من لخصم لم يجد من يجادله



فلذلك صار ابنه عمير سبئيا . قال : وأما كميل بن زياد وعمير بن ضابئ فإنهما سارا إلى المدينة لقتل عثمان ، فأما عمير فإنه نكل عنه ، وأما كميل فإنه جسر وثاوره ، فوجأ عثمان وجهه فوقع على استه فقال : أوجعتني يا أمير المؤمنين ! فقال : أولست بفاتك ؟ قال : لا والله . فقال عثمان : فاستقد مني ، وقال : دونك . فعفا عنه ، وبقيا إلى أيام الحجاج فقتلهما ، وسيرد ذكر ذلك - إن شاء الله تعالى - .

قيل : وكان لعثمان على طلحة بن عبيد الله خمسون ألفا ، فقال له يوما : قد تهيأ [ ص: 549 ] مالك فاقبضه . قال : هو لك معونة على مروءتك . قيل : فلما حصر عثمان قال علي لطلحة : أنشدك الله ألا رددت الناس عن عثمان ! قال : لا والله حتى تعطيني بنو أمية الحق من أنفسها .

وكان عثمان يلقب ذا النورين لأنه جمع بين ابنتي النبي - صلى الله عليه وسلم - .

قال الأصمعي : استعمل عبد الله بن عامر قطن بن عبد عوف على كرمان ، فأقبل جيش للمسلمين فمنعهم سيل في واد من العبور ، وخشي قطن الفوت فقال : من عبر له ألف درهم . فحملوا أنفسهم وعبروا ، وكانوا أربعة آلاف ، فأعطاهم أربعة آلاف ألف درهم ، فأبى ابن عامر أن يجري ذلك له وكتب إلى عثمان ، فكتب عثمان : أن احبسها له فإنه إنما أعان بها في سبيل الله ، فلذلك سميت الجوائز لإجازة الوادي .

وقال حسان بن زيد : سمعت عليا وهو يخطب الناس ويقول بأعلى صوته : يا أيها الناس إنكم تكثرون في وفي عثمان ، فإن مثلي ومثله كما قال الله تعالى : ( ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين ) . وقال أبو حميد الساعدي - وهو بدري وكان مجانبا لعثمان - فلما قتل عثمان قال : والله ما أردنا قتله ، اللهم لك علي أن لا أفعل كذا وكذا ولا أضحك حتى ألقاك .

التالي السابق


الخدمات العلمية