صفحة جزء
ذكر قتل محمد بن أبي حذيفة

في هذه السنة قتل محمد بن أبي حذيفة ، وكان أبوه أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس قد قتل يوم اليمامة ، وترك ابنه محمدا هذا ، فكفله عثمان بن عفان وأحسن تربيته ، وكان فيما قيل : أصاب شرابا فحده عثمان ، ثم تنسك محمد وأقبل على العبادة ، وطلب من عثمان أن يوليه عملا ، فقال : لو كنت أهلا لذلك لوليتك . فقال له : إني قد رغبت في غزو البحر فأذن [ لي ] في إتيان مصر ، فأذن له وجهزه ، فلما قدمها رأى الناس عبادته فلزموه وعظموه ، وغزا مع عبد الله بن سعد غزوة الصواري .

وكان محمد يعيبه ويعيب عثمان بتوليته ويقول : استعمل رجلا أباح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دمه . فكتب عبد الله إلى عثمان : إن محمدا قد أفسد علي البلاد هو ومحمد بن أبي بكر . فكتب إليه : أما ابن أبي بكر فإنه يوهب لأبيه ولعائشة ، وأما ابن أبي حذيفة فإنه ابني وابن أخي وتربيتي وهو فرخ قريش . فكتب إليه : إن هذا الفرخ قد استوى ريشه ولم يبق إلا أن يطير . فبعث عثمان إلى ابن أبي حذيفة بثلاثين ألف درهم وبجمل عليه كسوة ، [ ص: 621 ] فوضعها محمد في المسجد ثم قال : يا معشر المسلمين ألا ترون إلى عثمان يخادعني عن ديني ويرشوني عليه ! فازداد أهل مصر تعظيما له وطعنا على عثمان ، ( وبايعوه على رياستهم ) ، فكتب إليه عثمان يذكره بره به وتربيته إياه وقيامه بشأنه ، ويقول : إنك كفرت إحساني أحوج ما كنت إلى شكرك . فلم يرده ذلك عن ذمه وتأليب الناس عليه ، وحثهم على المسير إلى حصره ، ومساعدة من يريد ذلك .

فلما سار المصريون إلى عثمان ، أقام هو بمصر ، وخرج عنها عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، ( فاستولى عليها ) وضبطها ، فلم يزل بها مقيما حتى قتل عثمان وبويع علي ، واتفق معاوية وعمرو بن العاص على خلاف علي ، فسار إلى مصر قبل قدوم قيس بن سعد إليها أميرا ، فأراد دخولها فلم يقدر على ذلك ، فخدع محمدا حتى خرج منها إلى العريش في ألف رجل ، فتحصن بها ، فنصب عليه المنجنيق حتى نزل في ثلاثين من أصحابه فقتل .

وهذا القول ليس بشيء ، لأن عليا استعمل قيسا على مصر أول ما بويع له ، ولو أن ابن أبي حذيفة قتله معاوية وعمرو قبل وصول قيس إلى مصر لاستوليا عليها ; لأنه لم يكن بها أمير يمنعهما عنها ، ولا خلاف أن استيلاء معاوية وعمرو عليها كان بعد صفين ، والله أعلم .

وقيل غير ذلك ، وهو أن محمد بن أبي حذيفة سير المصريين إلى عثمان ، فلما حصروه أخرج محمد عبد الله بن سعد عن مصر ، وهو عامل عثمان ، واستولى عليها ، فنزل عبد الله على تخوم مصر ، وانتظر أمر عثمان ، فطلع عليه راكب فسأله ، فأخبره بقتل عثمان ، فاسترجع ، وسأله عما صنع الناس بعده ، فأخبره ببيعة علي ، فاسترجع ، فقال له : كأن إمرة علي تعدل عندك قتل عثمان ! قال : نعم . قال : أظنك عبد الله بن سعد . فقال : نعم . فقال له : إن كانت لك في نفسك حاجة فالنجاء النجاء ، فإن رأي أمير المؤمنين علي فيك وفي أصحابك إن ظفر بكم أن يقتلكم أو ينفيكم ، وهذا بعدي أمير يقدم عليك . فقال : من هو ؟ قال قيس بن سعد بن عبادة . قال عبد الله بن سعد : أبعد الله محمد بن أبي حذيفة ، فإنه بغى على ابن عمه وسعى عليه ، وقد كفله ورباه وأحسن إليه ، فأساء جواره وجهز إليه الرجال حتى قتل ، ثم ولى عليه من هو أبعد منه ومن عثمان ، [ ص: 622 ] ولم يمتعه بسلطان بلاده شهرا ، ولم يره لذلك أهلا . وخرج عبد الله هاربا حتى قدم على معاوية .

وهذا القول يدل على أن قيسا ولي مصر ومحمد بن أبي حذيفة حي ، وهو الصحيح .

وقيل : إن عمرا سار إلى مصر بعد صفين ، فلقيه محمد بن أبي حذيفة في جيش ، فلما رأى عمرو كثرة من معه أرسل إليه ، فالتقيا واجتمعا ، فقال له عمرو : إنه قد كان ما ترى وقد بايعت هذا الرجل ، يعني معاوية ، وما أنا براض بكثير من أمره ، وإني لأعلم أن صاحبك عليا أفضل من معاوية نفسا وقديما وأولى بهذا الأمر ، فواعدني موعدا ألتقي معك فيه في غير جيش ، تأتي في مائة وآتي في مثلها ، وليس معنا إلا السيوف في القرب . فتعاهدا وتعاقدا على ذلك واتعدا العريش ، ورجع عمرو إلى معاوية ، فأخبره الخبر ، فلما جاء الأجل سار كل واحد منهما إلى صاحبه في مائة ، وجعل عمرو له جيشا خلفه لينطوي خبره ، فلما التقيا بالعريش قدم جيش عمرو على أثره ، فعلم محمد أنه قد غدر به ، فدخل قصرا بالعريش فتحصن به ، فحصره عمرو ورماه بالمنجنيق حتى أخذ أسيرا ، وبعث به عمرو إلى معاوية فسجنه ، وكانت ابنة قرظة امرأة معاوية ابنة عمة محمد بن أبي حذيفة أمها فاطمة بنت عتبة ، فكانت تصنع له طعاما ترسله إليه ، فأرسلت إليه يوما في الطعام مبارد ، فبرد بها قيوده وهرب فاختفى في غار فأخذ وقتل ، والله أعلم .

وقيل : إنه بقي محبوسا إلى أن قتل حجر بن عدي ، ثم إنه هرب ، فطلبه مالك بن هبيرة السكوني ، فظفر به فقتله غضبا لحجر ، وكان مالك قد شفع إلى معاوية في حجر فلم يشفعه . وقيل : إن محمد بن أبي حذيفة لما قتل محمد بن أبي بكر خرج في جمع كثير إلى عمرو ( فآمنه عمرو ) ، ثم غدر به وحمله إلى معاوية بفلسطين فحبسه ، ثم إنه هرب ، فأظهر معاوية للناس أنه كره هربه وأمر بطلبه ، فسار في أثره عبيد الله بن عمرو بن ظلام الخثعمي ، فأدركه بحوران في غار ، وجاءت حمر تدخل الغار ، فلما رأت محمدا نفرت منه ، وكان هناك ناس يحصدون ، فقالوا : والله إن لنفرة هذه الحمر لشأنا . فذهبوا إلى الغار فرأوه ، فخرجوا من عنده ، فوافقهم عبيد الله فسألهم عنه ووصفه لهم ، فقالوا : [ ص: 623 ] هو في الغار ، فأخرجه وكره أن يأتي به معاوية فيخلي سبيله ، فضرب عنقه ، وكان ابن خال معاوية .

التالي السابق


الخدمات العلمية