صفحة جزء
ذكر اجتماع الحكمين

ولما جاء وقت اجتماع الحكمين ، أرسل علي أربعمائة رجل ، عليهم شريح بن هانئ الحارثي ، وأوصاه أن يقول لعمرو بن العاص : إن عليا يقول لك : إن أفضل الناس عند الله - عز وجل - من كان العمل بالحق أحب إليه ، وإن نقصه من الباطل وإن زاده . يا عمرو والله إنك لتعلم أين موضع الحق فلم تتجاهل ؟ إن أوتيت طمعا يسيرا كنت لله به ولأوليائه عدوا ، وكأن والله ما أوتيت قد زال عنك ! ويحك فلا تكن للخائنين خصيما ، وللظالمين ظهيرا ، أما إني أعلم بيومك الذي أنت فيه نادم ، وهو يوم وفاتك ، تتمنى أنك لم تظهر لمسلم عداوة ، ولم تأخذ على حكم رشوة .

فلما بلغه تغير وجهه ثم قال : متى كنت أقبل مشورة علي ، أو أنتهي إلى أمره ، أو [ ص: 681 ] أعتد برأيه ؟ فقال له : وما يمنعك يا ابن النابغة أن تقبل من مولاك وسيد المسلمين بعد نبيهم مشورته ؟ فقد كان من هو خير منك أبو بكر ، وعمر يستشيرانه ، ويعملان برأيه . فقال له : إن مثلي لا يكلم مثلك . قال شريح : بأي أبويك ترغب عني يا ابن النابغة ؟ أبأبيك الوسط أم بأمك النابغة ؟ فقام عنه .

وأرسل علي أيضا معهم عبد الله بن عباس ليصلي بهم ويلي أمورهم ، ومعهم أبو موسى الأشعري .

وأرسل معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة من أهل الشام ، حتى توافوا من دومة الجندل بأذرح . وكان عمرو إذا أتاه كتاب من معاوية لا يدري بما جاء فيه ، ولا يسأله أهل الشام عن شيء ، وكان أهل العراق يسألون ابن عباس عن كتاب يصله من علي ، فإن كتمهم ظنوا به الظنون وقالوا : أتراه كتب بكذا وكذا ؟ فقال لهم ابن عباس : أما تعقلون ؟ أما ترون رسول معاوية يجيء ، لا يعلم أحد بما جاء به ، ولا يسمع لهم صياح ، وأنتم عندي كل يوم تظنون في الظنون ؟

وحضر معهم ابن عمر ، وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ، وابن الزبير ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وعبد الرحمن بن عبد يغوث الزهري ، وأبو جهم بن حذيفة العدوي ، والمغيرة بن شعبة .

وكان سعد بن أبي وقاص على ماء لبني سليم بالبادية ، فأتاه ابنه عمر فقال له : إن أبا موسى وعمرا قد شهدهما نفر من قريش ، فاحضر معهم فإنك صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحد الشورى ، ولم تدخل في شيء كرهته هذه الأمة ، وأنت أحق الناس بالخلافة . فلم يفعل ، وقيل : بل حضرهم سعد ، وندم على حضوره فأحرم بعمرة من بيت المقدس .

وقال المغيرة بن شعبة لرجال من قريش : أترون أحدا يستطيع أن يأتي برأي يعلم [ ص: 682 ] به ، أيجتمع الحكمان أم لا ؟ فقالوا : لا . فقال : إني أعلمه منهما . فدخل على عمرو بن العاص فقال : كيف ترانا معشر من اعتزل الحرب ؟ فإنا قد شككنا في الأمر الذي استبان لكم فيها . فقال له عمرو : أراكم خلف الأبرار ، أمام الفجار . فانصرف المغيرة إلى أبي موسى ، فقال له مثل قوله لعمرو . فقال له أبو موسى : أراكم أثبت الناس رأيا ، فيكم بقية الناس . فعاد المغيرة إلى أصحابه وقال لهم : لا يجتمع هذان على أمر واحد .

فلما اجتمع الحكمان قال عمرو : يا أبا موسى ألست تعلم أن عثمان قتل مظلوما ؟ قال : أشهد . قال : ألست تعلم أن معاوية وآل معاوية أولياؤه ؟ قال : بلى . قال : فما يمنعك منه وبيته في قريش كما قد علمت ؟ فإن خفت أن يقول الناس : ليست له سابقة ، فقل وجدته ولي عثمان الخليفة المظلوم والطالب بدمه ، الحسن السياسة والتدبير ، وهو أخو أم حبيبة زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكاتبه ، وقد صحبه ، وعرض له بسلطان .

فقال أبو موسى : يا عمرو اتق الله ! فأما ما ذكرت من شرف معاوية ، فإن هذا ليس على الشرف تولاه أهله ، ولو كان على الشرف لكان لآل أبرهة بن الصباح ، إنما هو لأهل الدين والفضل ، مع أني لو كنت معطيه أفضل قريش شرفا أعطيته علي بن أبي طالب ، وأما قولك : إن معاوية ولي دم عثمان فوله هذا الأمر ، فلم أكن لأوليه وأدع المهاجرين الأولين ، وأما تعريضك لي بالسلطان ، فوالله لو خرج معاوية لي من سلطانه كله لما وليته ، وما كنت لأرتشي في حكم الله ! ولكنك إن شئت أحيينا اسم عمر بن الخطاب - رحمه الله - .

قال له عمرو : فما يمنعك من ابني ، وأنت تعلم فضله وصلاحه ؟ فقال : إن ابنك رجل صدق ، ولكنك قد غمسته في هذه الفتنة . فقال عمرو : إن هذا الأمر لا يصلح إلا لرجل يأكل ويطعم ، وكانت في ابن عمر غفلة ، فقال له ابن الزبير : افطن ، فانتبه ! فقال : والله لا أرشو عليها شيئا أبدا . وقال : يا ابن العاص ، إن العرب قد أسندت إليك أمرها بعدما تقارعوا بالسيوف فلا تردنهم في فتنة .

وكان عمرو قد عود أبا موسى أن يقدمه في الكلام ، يقول له : أنت صاحب [ ص: 683 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأسن مني فتكلم ، وتعود ذلك أبو موسى ، وأراد عمرو بذلك كله أن يقدمه في خلع علي ، فلما أراده عمرو على ابنه وعلى معاوية فأبى ، وأراد أبو موسى ابن عمر فأبى عمرو ، قال له عمرو : خبرني ما رأيك ؟ قال : أرى أن نخلع هذين الرجلين ونجعل الأمر شورى ، فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبوا . فقال عمرو : الرأي ما رأيت . فأقبلا إلى الناس وهم مجتمعون ، فقال عمرو : يا أبا موسى أعلمهم أن رأينا قد اتفق . فتكلم أبو موسى فقال : إن رأينا قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح الله به أمر هذه الأمة . فقال عمرو : صدق وبر ، تقدم يا أبا موسى فتكلم . فتقدم أبو موسى ، فقال له ابن عباس : ويحك ! والله إني لأظنه قد خدعك ، إن كنتما اتفقتما على أمر فقدمه فليتكلم به قبلك ، ثم تكلم به بعده ، فإنه رجل غادر ولا آمن أن يكون قد أعطاك الرضا بينكما ، فإذا قمت في الناس خالفك .

وكان أبو موسى مغفلا فقال : إنا قد اتفقنا ، وقال : أيها الناس ، إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة ، فلم نر أصلح لأمرها ولا ألم لشعثها من أمر قد أجمع رأيي ورأي عمرو عليه ، وهو أن نخلع عليا ومعاوية ، ويولي الناس أمرهم من أحبوا ، وإني قد خلعت عليا ومعاوية ، فاستقبلوا أمركم ، وولوا عليكم من رأيتموه أهلا . ثم تنحى .

وأقبل عمرو فقام وقال : إن هذا قد قال ما سمعتموه وخلع صاحبه ، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه ، وأثبت صاحبي معاوية ، فإنه ولي ابن عفان ، والطالب بدمه ، وأحق الناس بمقامه .

فقال سعد : ما أضعفك يا أبا موسى عن عمرو ومكايده ! فقال أبو موسى : فما أصنع ؟ وافقني على أمر ثم نزع عنه ! فقال ابن عباس : لا ذنب لك يا أبا موسى ، الذنب لمن قدمك في هذا المقام . قال : غدر فما أصنع ؟ فقال ابن عمر : انظروا إلى ما صار أمر هذه الأمة ! صار إلى رجل ما يبالي ما صنع وإلى آخر ضعيف .

وقال عبد الرحمن بن أبي بكر : لو مات الأشعري قبل هذا ( اليوم ) لكان خيرا له .

وقال أبو موسى الأشعري لعمرو : لا وفقك الله ، غدرت وفجرت ! إنما مثلك ( كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ) قال عمرو : إنما مثلك ( كمثل الحمار يحمل أسفارا ) . فحمل شريح بن هانئ على عمرو فضربه بالسوط وحمل ( ابن [ ص: 684 ] لعمرو ) على شريح فضربه بالسوط أيضا ، وحجز الناس بينهم ، وكان شريح يقول بعد ذلك : ما ندمت على شيء ندامتي على ضرب عمرو بالسوط ، ولم أضربه بالسيف .

والتمس أهل الشام أبا موسى ، فهرب إلى مكة ، ثم انصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية ، فسلموا عليه بالخلافة ، ورجع ابن عباس وشريح إلى علي ، وكان علي إذا صلى الغداة يقنت فيقول : اللهم العن معاوية وعمرا وأبا الأعور وحبيبا وعبد الرحمن بن خالد والضحاك بن قيس والوليد ! فبلغ ذلك معاوية فكان إذا قنت سب عليا وابن عباس والحسن والحسين والأشتر .

وقد قيل : إن معاوية حضر الحكمين ، وإنه قام عشية في الناس فقال : أما بعد من كان متكلما في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه . قال ( ابن عمر : فاطلعت حبوتي ) ، فأردت أن أقول : يتكلم فيه رجال قاتلوك وأباك على الإسلام ، فخشيت أن أقول كلمة تفرق الجماعة ويسفك فيها دم ، وكان ما وعد الله فيه الجنان أحب إلي من ذلك ، فلما انصرفت إلى المنزل جاءني حبيب بن مسلمة فقال : ما منعك أن تتكلم حين سمعت هذا الرجل يتكلم ؟ قلت : أردت ذلك ثم خشيت . فقال حبيب : وفقت وعصمت ، وهذا أصح ( لأنه ورد في الصحيح ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية