صفحة جزء
[ ص: 724 ] 39

ثم دخلت سنة تسع وثلاثين

ذكر سرايا أهل الشام إلى بلاد أمير المؤمنين - عليه السلام -

وفي هذه السنة فرق معاوية جيوشه في العراق في أطراف علي ، فوجه النعمان بن بشير في ألف رجل إلى عين التمر ، وفيها مالك بن كعب مسلحة لعلي في ألف رجل ، وكان مالك قد أذن لأصحابه فأتوا الكوفة ، ولم يبق معه إلا مائة رجل ، فلما سمع بالنعمان كتب إلى أمير المؤمنين يخبره ويستمده ، فخطب علي الناس وأمرهم بالخروج إليه ، فتثاقلوا ، وواقع مالك النعمان ، وجعل جدار القرية في ظهور أصحابه ، وكتب مالك إلى مخنف بن سليم يستعينه ، وهو قريب منه ، واقتتل مالك والنعمان أشد قتال ، فوجه مخنف ابنه عبد الرحمن في خمسين رجلا ، فانتهوا إلى مالك وقد كسروا جفون سيوفهم واستقتلوا ، فلما رآهم أهل الشام انهزموا عند المساء ، وظنوا أن لهم مددا ، وتبعهم مالك فقتل منهم ثلاثة نفر .

ولما تثاقل أهل الكوفة عن الخروج إلى مالك صعد علي المنبر فخطبهم ، ثم قال : يا أهل الكوفة ، كلما سمعتم بجمع من أهل الشام أظلكم انجحر كل امرئ منكم في بيته ، وأغلق عليه بابه انجحار الضب في جحره والضبع في وجارها ، المغرور من غررتموه ، ومن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب ، لا أحرار عند النداء ، ولا إخوان عند النجاء ! وإنا لله وإنا إليه راجعون ! ماذا منيت به منكم ؟ عمي لا يبصرون ، وبكم لا ينطقون ، وصم لا يسمعون ! إنا لله وإنا إليه راجعون .

[ ص: 725 ] ووجه معاوية في هذه السنة أيضا سفيان بن عوف في ستة آلاف رجل ، وأمره أن يأتي هيت فيقطعها ، ثم يأتي الأنبار ، ( والمدائن فيوقع بأهلها . فأتى هيت فلم يجد بها أحدا ، ثم أتى الأنبار ) وفيها مسلحة لعلي تكون خمسمائة رجل ، وقد تفرقوا ولم يبق منهم إلا مائتا رجل ، وكان سبب تفرقهم أنه كان عليهم كميل بن زياد ، فبلغه أن قوما بقرقيسيا يريدون الغارة على هيت ، فسار إليهم بغير أمر علي ، فأتى أصحاب سفيان وكميل غائب عنها ، فأغضب ذلك عليا على كميل ، فأتى إليه ينكر ذلك عليه ، وطمع سفيان في أصحاب علي لقلتهم فقاتلهم ، فصبر أصحاب علي ثم قتل صاحبهم ، وهو أشرس بن حسان البكري ، وثلاثون رجلا ، واحتملوا ما في الأنبار من أموال أهلها ، ورجعوا إلى معاوية ، وبلغ الخبر عليا فأرسل في طلبهم فلم يدركوا .

وفيها أيضا وجه معاوية عبد الله بن مسعدة بن حكمة بن مالك بن بدر الفزاري في ألف وسبعمائة رجل إلى تيماء ، وأمره أن يصدق من مر به من أهل البوادي ويقتل من امتنع ، ففعل ذلك ، وبلغ مكة والمدينة وفعل ذلك ، واجتمع إليه بشر كثير من قومه ، وبلغ ذلك عليا فأرسل المسيب بن نجبة الفزاري في ألفي رجل ، فلحق عبد الله بتيماء ، فاقتتلوا حتى زالت الشمس قتالا شديدا ، وحمل المسيب على ابن مسعدة ، فضربه ثلاث ضربات لا يريد قتله ، ويقول له : النجاء النجاء ! فدخل ابن مسعدة وجماعة معه الحصن ، وهرب الباقون نحو الشام ، وانتهب الأعراب إبل الصدقة التي كانت مع ابن مسعدة ، وحصره ومن معه ثلاثة أيام ، ثم ألقى الحطب في الباب وحرقه ، فلما رأوا الهلاك أشرفوا عليه وقالوا : يا مسيب قومك ، فرق لهم ، وأمر بالنار فأطفئت ، وقال لأصحابه : قد جاءتني عيوني فأخبروني أن جندا قد أتاكم من الشام . فقال له عبد الرحمن بن شبيب : سرحني في طلبهم ، فأبى ذلك عليه ، فقال : غششت أمير المؤمنين وداهنت في أمرهم .

وفيها أيضا وجه معاوية الضحاك بن قيس ، وأمره أن يمر بأسفل واقصة ، ويغير [ ص: 726 ] على كل من مر به ممن هو في طاعة علي من الأعراب ، ( وأرسل ثلاثة آلاف رجل معه ، فسار الناس ، وأخذ الأموال ومضى إلى الثعلبية ، وقتل وأغار على مسلحة علي ، وانتهى إلى القطقطانة . فلما بلغ ذلك عليا ) أرسل إليه حجر بن عدي في أربعة آلاف ، وأعطاهم خمسين درهما خمسين درهما ، فلحق الضحاك بتدمر ، فقتل منهم تسعة عشر رجلا ، وقتل من أصحابه رجلان ، وحجز بينهما الليل ، فهرب الضحاك وأصحابه ، ورجع حجر ومن معه .

وفي هذه السنة سار معاوية بنفسه حتى شارف دجلة ثم نكص راجعا .

واختلف فيمن حج [ بالناس ] هذه السنة ، فقيل : حج بالناس عبيد الله بن عباس من قبل علي ، وقيل : بل حج عبد الله أخوه ، وذلك باطل ، فإن عبد الله بن عباس لم يحج في خلافة علي ، وإنما كان على هذه السنة على الحج عبيد الله بن عباس ، وبعث معاوية يزيد بن شجرة الرهاوي ، فاختلف عبيد الله ويزيد بن شجرة واتفقا على أن يحج بالناس شيبة بن عثمان ، وقيل : إن الذي حج من جانب علي قثم بن العباس ، وكان عمال علي على البلاد من تقدم ذكرهم .

ذكر مسير يزيد بن شجرة إلى مكة

وفي هذه السنة دعا معاوية يزيد بن شجرة الرهاوي - وهو من أصحابه - فقال له : إني أريد أن أوجهك إلى مكة لتقيم للناس الحج ، وتأخذ لي البيعة بمكة ، وتنفي عنها عامل علي .

[ ص: 727 ] فأجابه إلى ذلك ، وسار إلى مكة في ثلاثة آلاف فارس ، وبها قثم بن العباس عامل علي ، فلما سمع به قثم خطب أهل مكة ، وأعلمهم بمسير الشاميين ، ودعاهم إلى حربهم ، فلم يجيبوه بشيء ، وأجابه شيبة بن عثمان العبدري بالسمع والطاعة ، فعزم قثم على مفارقة مكة واللحاق ببعض شعابها ، ومكاتبة أمير المؤمنين بالخبر ، فإن أمده بالجيوش قاتل الشاميين ، فنهاه أبو سعيد الخدري عن مفارقة مكة وقال له : أقم ، فإن رأيت منهم القتال وبك قوة فاعمل برأيك ، وإلا فالمسير عنها أمامك . فأقام وقدم الشاميون ولم يعرضوا لقتال أحد ، وأرسل قثم إلى أمير المؤمنين يخبره ، فسير جيشا فيهم الريان بن ضمرة بن هوذة بن علي الحنفي ، وأبو الطفيل أول ذي الحجة . وكان قدوم ابن شجرة قبل التروية بيومين ، فنادى في الناس : أنتم آمنون إلا من قاتلنا ونازعنا . واستدعى أبا سعيد الخدري وقال له : إني أريد الإلحاد في الحرم ، ولو شئت لفعلت لما فيه أميركم من الضعف ، فقل له يعتزل الصلاة بالناس ، وأعتزلها أنا ، ويختار الناس رجلا يصلي بهم . فقال أبو سعيد لقثم ذلك ، فاعتزل الصلاة ، واختار الناس شيبة بن عثمان فصلى بهم وحج بهم . فلما قضى الناس حجهم رجع يزيد إلى الشام ، وأقبل خيل علي فأخبروا بعود أهل الشام ، فتبعوهم ، وعليهم معقل بن قيس ، فأدركوهم وقد رحلوا عن وادي القرى ، فظفروا بنفر منهم ، فأخذوهم أسارى ، وأخذوا ما معهم ورجعوا بهم إلى أمير المؤمنين ، ففادى بهم أسارى كانت له عند معاوية .

( الرهاوي منسوب إلى الرهاء قبيلة من العرب ، وقد ضبطه عبد الغني ابن سعيد بفتح الراء : قبيلة مشهورة ، وأما المدينة فبضم الراء ) .

ذكر غارة أهل الشام على أهل الجزيرة

وفيها سير معاوية عبد الرحمن بن قباث بن أشيم إلى بلاد الجزيرة ، وفيها شبيب بن عامر جد الكرماني الذي كان بخراسان ، وكان شبيب بنصيبين ، فكتب إلى كميل بن [ ص: 728 ] زياد ، وهو بهيت ، يعلمه الخبر ، فسار كميل إليه نجدة له في ستمائة فارس ، فأدركوا عبد الرحمن ومعه معن بن يزيد السلمي ، فقاتلهما كميل وهزمهما ، فغلب على عسكرهما وأكثر القتل في أهل الشام ، وأمر أن لا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح ، وقتل من أصحاب كميل رجلان ، وكتب إلى علي بالفتح فجزاه خيرا ، وأجابه جوابا حسنا - رضي الله عنه - ، وكان ساخطا عليه لما تقدم ذكره .

وأقبل شبيب بن عامر من نصيبين ، فرأى كميلا قد أوقع بالقوم ، فهنأه بالظفر ، واتبع الشاميين ، فلم يلحقهم ، فعبر الفرات ، وبث خيله فأغارت على أهل الشام حتى بلغ بعلبك ، فوجه معاوية إليه حبيب بن مسلمة فلم يدركه ، ورجع شبيب فأغار على نواحي الرقة فلم يدع للعثمانية بها ماشية إلا استاقها ، ولا خيلا ولا سلاحا إلا أخذه ، وعاد إلى نصيبين ، وكتب إلى علي ، فكتب إليه علي ينهاه عن أخذ أموال الناس إلا الخيل والسلاح الذي يقاتلون به ، وقال : رحم الله شبيبا ، لقد أبعد الغارة وعجل الانتصار .

ذكر غارة الحارث بن نمر التنوخي

ولما قدم يزيد بن شجرة على معاوية وجه الحارث بن نمر التنوخي إلى الجزيرة ليأتيه بمن كان في طاعة علي ، فأخذ من أهل دارا سبعة نفر من بني تغلب ، وكان جماعة من بني تغلب قد فارقوا عليا إلى معاوية ، فسألوه في إطلاق أصحابهم فلم يفعل ، فاعتزلوه أيضا . وكتب معاوية إلى علي ليفاديه بمن أسر معقل بن قيس من أصحاب يزيد بن شجرة ، فسيرهم علي إلى معاوية ، وأطلق معاوية هؤلاء ، وبعث علي رجلا من خثعم يقال له عبد الرحمن إلى ناحية الموصل ليسكن الناس ، فلقيه أولئك التغلبيون الذين اعتزلوا معاوية ، وعليهم قريع بن الحارث التغلبي ، فتشاتموا ثم اقتتلوا فقتلوه ، فأراد علي أن يوجه إليهم جيشا ، فكلمته ربيعة وقالوا : هم معتزلون لعدوك داخلون في طاعتك ، وإنما قتلوه خطأ . فأمسك عنهم .

[ ص: 729 ] ذكر أمر ابن العشبة

بعث معاوية زهير بن مكحول العامري - من عامر الأجدار - إلى السماوة وأمره أن يأخذ صدقات الناس ، وبلغ ذلك عليا فبعث ثلاثة نفر : جعفر بن عبد الله الأشجعي ، وعروة بن العشبة ، والجلاس بن عمير الكلبيين ، ليصدقوا من في طاعته من كلب وبكر بن وائل ، فوافوا زهيرا فاقتتلوا ، فانهزم أصحاب علي وقتل جعفر بن عبد الله ، ولحق ابن العشبة بعلي ، فعنفه وعلاه بالدرة ، فغضب ولحق بمعاوية ، وكان زهير قد حمل ابن العشبة على فرس ، فلذلك اتهمه . وأما الجلاس فإنه مر براع ، فأخذ جبته ، وأعطاه جبة خز ، فأدركته الخيل ، فقالوا : أين أخذ هؤلاء الترابيون ؟ فأشار إليهم : أخذوا هاهنا ، ثم أقبل إلى الكوفة

ذكر أمر مسلم بن عقبة بدومة الجندل

وبعث معاوية مسلم بن عقبة المري إلى دومة الجندل ، وكان أهلها قد امتنعوا من بيعة علي ومعاوية جميعا ، فدعاهم إلى طاعة معاوية وبيعته ، فامتنعوا ، وبلغ ذلك عليا فسير مالك بن كعب الهمداني في جمع إلى دومة الجندل ، فلم يشعر مسلم إلا وقد وافاه مالك ، فاقتتلوا يوما ثم انصرف مسلم منهزما ، وأقام مالك أياما يدعو أهل دومة الجندل إلى البيعة لعلي فلم يفعلوا ، وقالوا : لا نبايع حتى يجتمع الناس على إمام ، فانصرف وتركهم .

وفيها توجه الحارث بن مرة العبدي إلى بلاد السند ( غازيا متطوعا بأمر أمير المؤمنين علي ، فغنم وأصاب غنائم وسبيا كثيرا ، وقسم في يوم واحد ألف رأس وبقي غازيا ) إلى أن قتل بأرض القيقان هو ومن معه ، إلا قليلا سنة اثنتين وأربعين أيام معاوية .

[ ص: 730 ] ذكر ولاية زياد بن أبيه بلاد فارس

وفي هذه السنة ولى علي زيادا كرمان وفارس .

وسبب ذلك أنه لما قتل ابن الحضرمي ، واختلف الناس على علي ، طمع أهل فارس وكرمان في كسر الخراج ، فطمع أهل كل ناحية وأخرجوا عاملهم ، وأخرج أهل فارس سهل بن حنيف ، فاستشار علي الناس فقال له جارية بن قدامة : ألا أدلك يا أمير المؤمنين على رجل صلب الرأي عالم بالسياسة ، كاف لما ولي ؟ قال : من هو ؟ قال : زياد . فأمر علي ابن عباس أن يولي زيادا ، فسيره إليها في جمع كثير ، فوطئ بهم أهل فارس ، وكانت قد اضطرمت ، فلم يزل يبعث إلى رؤوسهم يعد من ينصره ويمنيه ، ويخوف من امتنع عليه ، وضرب بعضهم ببعض ، فدل بعضهم على عورة بعض ، وهربت طائفة ، وأقامت طائفة ، فقتل بعضهم بعضا ، وصفت له فارس ولم يلق منهم جمعا ولا حربا ، وفعل مثل ذلك بكرمان . ثم رجع إلى فارس وسكن الناس واستقامت له ، ونزل إصطخر ، وحصن قلعة تسمى قلعة زياد قريب إصطخر ، ( ثم تحصن فيها بعد ذلك منصور اليشكري ، فهي تسمى قلعة منصور ) . ( وقيل إن [ ابن ] عباس أشار بولايته ، وقد تقدم ذكره ) .

[ الوفيات ]

وفيها مات أبو مسعود الأنصاري البدري ، وقيل في أول خلافة معاوية ، وقيل غير [ ص: 731 ] ذلك ، ولم يشهد بدرا وإنما قيل له بدري لأنه نزل ماء بدر ، وانقرض عقبه

التالي السابق


الخدمات العلمية