صفحة جزء
ومكث الحسين طويلا من النهار كلما انتهى إليه رجل من الناس رجع عنه وكره أن يتولى قتله وعظم إثمه [ عليه ] ثم إن رجلا من كندة يقال له مالك بن النسير أتاه فضربه على رأسه بالسيف فقطع البرنس ، وأدمى رأسه وامتلأ البرنس دما ، فقال له الحسين : لا أكلت بها ولا شربت وحشرك الله مع الظالمين ! وألقى البرنس ولبس القلنسوة ، وأخذ الكندي البرنس ، فلما قدم على أهله أخذ البرنس يغسل الدم عنه ، فقالت له امرأته : أسلب ابن [ بنت ] رسول الله تدخل بيتي ؟ أخرجه عني ! قال : فلم يزل [ ص: 181 ] ذلك الرجل فقيرا بشر حتى مات .

ودعا الحسين بابنه عبد الله وهو صغير ( فأجلسه في حجره ، فرماه رجل من بني أسد فذبحه ، فأخذ الحسين دمه ) فصبه في الأرض ثم قال : ربي إن تكن حبست عنا النصر من السماء فاجعل ذلك لما هو خير وانتقم من هؤلاء الظالمين .

ورمى عبد الله بن عقبة الغنوي أبا بكر بن الحسين بن علي بسهم فقتله ، وقال العباس بن علي لإخوته من أمه عبد الله وجعفر وعثمان : تقدموا حتى أرثكم فإنه لا ولد لكم .

ففعلوا فقتلوا ، وحمل هانئ بن ثبيت الحضرمي على عبد الله بن علي فقتله ، ثم حمل على جعفر بن علي فقتله ، ورمى خولي بن يزيد الأصبحي عثمان بن علي ، ثم حمل عليه رجل من بني أبان بن دارم فقتله وجاء برأسه ، ورمى رجل من بني أبان أيضا محمد بن علي بن أبي طالب فقتله وجاء برأسه .

وخرج غلام من خباء من تلك الأخبية فأخذ بعود من عيدانه وهو ينظر كأنه مذعور ، فحمل عليه رجل قيل إنه هانئ بن ثبيت الحضرمي فقتله .

واشتد عطش الحسين فدنا من الفرات ليشرب فرماه حصين بن نمير بسهم فوقع في فمه فجعل يتلقى الدم بيده ورمى به إلى السماء ، ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال : اللهم إني أشكو إليك ما يصنع بابن بنت نبيك ! اللهم أحصهم عددا ، واقتلهم بددا ، ولا تبق منهم أحدا !

وقيل الذي رماه رجل من بني أبان بن دارم ، فمكث ذلك الرجل يسيرا ثم صب الله عليه الظمأ فجعل لا يروى ، فكان يروح عنه ويبرد له الماء فيه السكر وعساس فيها اللبن ويقول : اسقوني ، فيعطى القلة أو العس فيشربه ، فإذا شربه اضطجع هنيهة ثم يقول : اسقوني قتلني الظمأ ، فما لبث إلا يسيرا حتى انقدت بطنه انقداد بطن البعير .

ثم إن شمر بن ذي الجوشن أقبل في نفر نحو عشرة من رجالهم نحو منزل [ ص: 182 ] الحسين فحالوا بينه وبين رحله ، فقال لهم الحسين : ويلكم ! إن لم يكن لكم دين ولا تخافون يوم المعاد فكونوا أحرارا ذوي أحساب ، امنعوا رحلي وأهلي من طغاتكم وجهالكم .

فقالوا : ذلك لك يا ابن فاطمة .

وأقدم عليه شمر بالرجالة منهم : أبو الجنوب ، واسمه عبد الرحمن الجعفي ، والقشعم بن نذير الجعفي ، وصالح بن وهب اليزني ، وسنان بن أنس النخعي ، وخولي بن يزيد الأصبحي ، وجعل شمر يحرضهم على الحسين وهو يحمل عليهم فينكشفون عنه ، ثم إنهم أحاطوا به .

وأقبل إلى الحسين غلام من أهله فقام إلى جنبه وقد أهوى بحر بن كعب بن تيم الله بن ثعلبة إلى الحسين بالسيف ، فقال الغلام : يا ابن الخبيثة أتقتل عمي ! فضربه بالسيف ، فاتقاه الغلام بيده فأطنها إلى الجلدة ، فنادى الغلام : يا أمتاه ! فاعتنقه الحسين وقال له : يا ابن أخي اصبر على ما نزل بك فإن الله يلحقك بآبائك الطاهرين الصالحين ، برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلي وحمزة وجعفر والحسن .

وقال الحسين : اللهم أمسك عنهم قطر السماء وامنعهم بركات الأرض ! اللهم فإن متعتهم إلى حين ففرقهم فرقا واجعلهم طرائق قددا ولا ترض عنهم الولاة أبدا ، فإنهم دعونا لينصرونا فعدوا علينا فقتلونا !

ثم ضارب الرجالة حتى انكشفوا عنه ، ولما بقي الحسين في ثلاثة أو أربعة دعا بسراويل ففزره ونكثه لئلا يسلبه ، فقال له بعضهم : لو لبست تحته التبان .

قال : ذلك ثوب مذلة ولا ينبغي لي أن ألبسه .

فلما قتل سلبه بحر بن كعب ، وكانت يداه في الشتاء تنضحان بالماء ، وفي الصيف تيبسان كأنهما عود .

وحمل الناس عليه عن يمينه وشماله ، فحمل على الذين عن يمينه فتفرقوا ، ثم حمل على الذين عن يساره فتفرقوا ، فما رئي مكثور قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشا منه ، ولا أمضى جنانا ولا أجرأ مقدما منه ، إن كانت الرجالة لتنكشف عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب .

فبينما هو كذلك إذ خرجت زينب وهي تقول : ليت السماء انطبقت على الأرض ! وقد دنا عمر بن سعد ، فقالت : يا عمر أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه ؟ فدمعت عيناه [ ص: 183 ] حتى سالت دموعه على خديه ولحيته وصرف وجهه عنها .

وكان على الحسين جبة من خز ، وكان معتما مخضوبا بالوسمة ، وقاتل راجلا قتال الفارس الشجاع يتقي الرمية ويفترص العورة ويشد على الخيل وهو يقول : أعلى قتلي تجتمعون ؟ أما والله لا تقتلون بعدي عبدا من عباد الله ، الله أسخط عليكم لقتله مني ! وايم الله إني لأرجو أن يكرمني الله بهوانكم ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون ! أما والله لو قتلتموني لألقى الله بأسكم بينكم وسفك دماءكم ثم لا يرضى بذلك منكم حتى يضاعف لكم العذاب الأليم .

قال : ومكث طويلا من النهار ، ولو شاء الناس أن يقتلوه لقتلوه ولكنهم كان يتقي بعضهم ببعض ويحب هؤلاء أن يكفيهم هؤلاء ، فنادى شمر في الناس : ويحكم ماذا تنتظرون بالرجل ؟ اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم ! فحملوا عليه من كل جانب ، فضرب زرعة بن شريك التميمي على كفه اليسرى وضرب أيضا على عاتقه ثم انصرفوا عنه وهو يقوم ويكبو ، وحمل عليه في تلك الحال سنان بن أنس النخعي فطعنه بالرمح فوقع ، وقال لخولي بن يزيد الأصبحي : احتز رأسه ، فأراد أن يفعل فضعف وأرعد ، فقال له سنان ، فت الله عضدك ! ونزل إليه فذبحه واحتز رأسه فدفعه إلى خولي ، ( وسلب الحسين ما كان عليه ، فأخذ سراويله ) بحر بن كعب ( وأخذ قيس بن الأشعث قطيفته ، وهي من خز ، فكان يسمى بعد قيس قطيفة ) ، وأخذ نعليه الأودي ، وأخذ سيفه رجل من دارم ، ومال الناس على الورس والحلل والإبل فانتهبوها ونهبوا ثقله ومتاعه وما على النساء حتى إن كانت المرأة لتنزع ثوبها من ظهرها فيؤخذ منها .

ووجد بالحسين ثلاث وثلاثون طعنة وأربع وثلاثون ضربة ( غير الرمية ) .

وأما سويد بن المطاع فكان قد صرع فوقع بين القتلى مثخنا بالجراحات ، فسمعهم يقولون : قتل الحسين ! فوجد خفة فوثب ومعه سكين ، وكان سيفه قد أخذ [ ص: 184 ] فقاتلهم بسكينه ساعة ثم قتل ، قتله عروة بن بطان الثعلبي وزيد بن رقاد الجنبي ، وكان آخر من قتل من أصحاب الحسين .

ثم انتهوا إلى علي بن الحسين زين العابدين فأراد شمر قتله ، فقال له حميد بن مسلم : سبحان الله أتقتل الصبيان ! وكان مريضا ، وجاء عمر بن سعد فقال : لا يدخلن بيت هذه النسوة أحد ولا يعرض لهذا الغلام المريض ، ومن أخذ من متاعهم شيئا فليرده ، فلم يرد أحد شيئا .

فقال الناس لسنان بن أنس النخعي : قتلت الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتلت أعظم العرب خطرا ، أراد أن يزيل ملك هؤلاء ، فأت أمراءك فاطلب ثوابك منهم فإنهم لو أعطوك بيوت أموالهم في قتله كان قليلا .

فأقبل على فرسه ، وكان شجاعا شاعرا به لوثة ، حتى وقف على باب فسطاط عمر بن سعد ثم نادى بأعلى صوته :


أوقر ركابي فضة وذهبا إني قتلت السيد المحجبا     قتلت خير الناس أما وأبا
وخيرهم إذ ينسبون نسبا



فقال عمر بن سعد : أشهد أنك مجنون ، أدخلوه علي .

فلما دخل حذفه بالقضيب وقال : يا مجنون أتتكلم بهذا الكلام ؟ والله لو سمعك ابن زياد لضرب عنقك ! وأخذ عمر بن سعد عقبة بن سمعان مولى الرباب ابنة امرئ القيس الكلبية امرأة الحسين ، فقال : ما أنت ؟ فقال : أنا عبد مملوك .

فخلى سبيله ، فلم ينج منهم غيره وغير المرقع بن ثمامة الأسدي ، وكان قد نثر نبله فقاتل ، فجاء نفر من قومه فآمنوه فخرج إليهم ، فلما أخبر ابن زياد خبره نفاه إلى الزارة .

ثم نادى عمر بن سعد في أصحابه من ينتدب إلى الحسين فيوطئه فرسه ، فانتدب عشرة ، منهم إسحاق بن حيوة الحضرمي ، وهو الذي سلب قميص الحسين ، فبرص بعد ، فأتوا فداسوا الحسين بخيولهم حتى رضوا ظهره وصدره .

وكان عدة من قتل من أصحاب الحسين اثنين وسبعين رجلا .

[ ص: 185 ] ودفن الحسين وأصحابه أهل الغاضرية من بني أسد بعد قتلهم بيوم .

وقتل من أصحاب عمر بن سعد ثمانية وثمانون رجلا سوى الجرحى فصلى عليهم عمر ودفنهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية