صفحة جزء
[ ص: 189 ] ذكر حال أشمويل وطالوت

كان من خبر أشمويل بن بالي أن بني إسرائيل لما طال عليهم البلاء وطمع فيهم الأعداء ، وأخذ التابوت منهم ، فصاروا بعده لا يلقون ملكا إلا خائفين ، فقصدهم جالوت ملك الكنعانيين ، وكان ملكه ما بين مصر وفلسطين ، فظفر بهم فضرب عليهم الجزية ، وأخذ منهم التوراة ، فدعوا الله أن يبعث لهم نبيا يقاتلون معه ، وكان سبط النبوة هلكوا فلم يبق منهم غير امرأة حبلى ، فحبسوها في بيت خيفة أن تلد جارية فتبدلها بغلام لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها ، فولدت غلاما سمته أشمويل ، ومعناه : سمع الله دعائي .

وسبب هذه التسمية أنها كانت عاقرا ، وكان لزوجها امرأة أخرى قد ولدت له عشرة أولاد فبغت عليها بكثرة الأولاد ، فانكسرت العجوز ودعت الله أن يرزقها ولدا ، فرحم الله انكسارها وحاضت لوقتها وقرب منها زوجها ، فحملت ، فلما انقضت مدة الحمل ولدت غلاما فسمته أشمويل ، فلما كبر أسلمته في بيت المقدس يتعلم التوراة ، وكفله شيخ من علمائهم وتبناه .

فلما بلغ أن يبعثه الله نبيا أتاه جبرائيل وهو يصلي فناداه بصوت يشبه صوت الشيخ ، فجاء إليه ، فقال : ما تريد ؟ فكره أن يقول لم أدعك فيفزع ، فقال : ارجع [ ص: 190 ] فنم . فرجع ، فعاد جبرائيل لمثلها ، فجاء إلى الشيخ ، فقال له : يا بني عد فإذا دعوتك فلا تجبني . فلما كانت الثالثة ظهر له جبرائيل وأمره بإنذار قومه ، وأعلمه أن الله بعثه رسولا ، فدعاهم فكذبوه ، ثم أطاعوه ، وأقام يدير أمرهم عشر سنين ، وقيل : أربعين سنة .

وكان العمالقة مع ملكهم جالوت قد عظمت نكايتهم في بني إسرائيل حتى كادوا يهلكونهم ، فلما رأى بنو إسرائيل ذلك قالوا : ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا .

فدعا الله فأرسل إليه عصا وقرنا فيه دهن ، وقيل له : إن صاحبكم يكون في طوله طول هذه العصا ، وإذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي في القرن فهو ملك بني إسرائيل فادهن رأسه به وملكه عليهم ، فقاسوا أنفسهم بالعصا فلم يكونوا مثلها ، وكان طالوت دباغا . وقيل كان سقاء يسقي الماء ويبيعه ، فضل حماره فانطلق يطلبه ، فلما اجتاز بالمكان الذي فيه أشمويل دخل يسأله أن يدعو له ليرد الله حماره ، فلما دخل نش الدهن ، فقاسوه بالعصا فكان مثلها ، وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا ، وهو بالسريانية شاول بن قيس بن أنمار بن ضرار بن يحرف بن يفتح بن أيش بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق . [ ص: 191 ] فقالوا له : ما كنت قط أكذب منك الساعة ونحن من سبط المملكة ولم يؤت طالوت سعة من المال فنتبعه .

فقال أشمويل : إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم . فقالوا إن كنت صادقا فأت بآية . فقال : إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة . والسكينة رأس هر ، وقيل طشت من ذهب يغسل فيها قلوب الأنبياء ، وقيل غير ذلك ، وفيه الألواح وهي من در ، وياقوت ، وزبرجد ، وأما البقية فهي عصا موسى ، ورضاضة الألواح .

فحملته الملائكة وأتت به إلى طالوت نهارا بين السماء والأرض والناس ينظرون ، فأخرجه طالوت إليهم ، فأقروا بملكه ساخطين وخرجوا معه كارهين ، وهم ثمانون ألفا . فلما خرجوا قال لهم طالوت : إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني . وهو نهر فلسطين ، وقيل : الأردن ، فشربوا منه إلا قليلا ، وهم أربعة آلاف ، فمن شرب منه عطش ومن لم يشرب منه إلا غرفة روي ، فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه . لقيهم جالوت ، وكان ذا بأس شديد ، فلما رأوه رجع أكثرهم و قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ، ولم يبق معه غير ثلاثمائة وبضعة عشر عدد أهل بدر ، فلما رجع من رجع قالوا : كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين . وكان فيهم إيشى أبو داود ومعه من أولاده ثلاثة عشر ابنا ، وكان داود أصغر بنيه ، وقد خلفه يرعى لهم ويحمل لهم الطعام ، وكان قد قال لأبيه ذات يوم : يا أبتاه ، ما أرمي [ ص: 192 ] بقذافتي شيئا إلا صرعته . ثم قال له : لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسدا رابضا فركبت عليه وأخذت بأذنيه فلم أخفه ، ثم أتاه يوما آخر فقال : إني لأمشي بين الجبال فأسبح فلا يبقى جبل إلا سبح معي . فقال له : أبشر ، فإن هذا خير أعطاكه الله .

فأرسل الله إلى النبي الذي مع طالوت قرنا فيه دهن وتنور من حديد ، فبعث به إلى طالوت ، وقال له : إن صاحبكم الذي يقتل جالوت يوضع هذا الدهن على رأسه فيغلي حتى يسيل من القرن ، ولا يجاوز رأسه إلى وجهه ويبقى على رأسه كهيئة الإكليل ، ويدخل في هذا التنور فيملأه . فدعا طالوت بني إسرائيل فجربهم ، فلم يوافقه منهم أحد ، فأحضر داود من رعيه ، فمر في طريقه بثلاثة أحجار ، فكلمته وقلن : خذنا يا داود تقتل بنا جالوت ، فأخذهن فجعلهن في مخلاته ، وكان طالوت قد قال : من قتل جالوت زوجته ابنتي وأجريت خاتمه في مملكتي .

فلما جاء داود ، وضعوا القرن على رأسه ، فغلى حتى ادهن منه ولبس التنور فملأه ، وكان داود مسقاما أزرق مصفارا ، فلما دخل في التنور تضايق عليه حتى ملأه ، فرح أشمويل وطالوت وبنو إسرائيل بذلك وتقدموا إلى جالوت ، وتصافوا للقتال ، وخرج داود نحو جالوت وأخذ الأحجار ووضعها في قذافته ورمى بها جالوت ، فوقع الحجر بين عينيه فنقب رأسه فقتله ، ولم يزل الحجر يقتل كل من أصابه ينفذ منه إلى غيره ، فانهزم عسكر جالوت بإذن الله ورجع طالوت فأنكح ابنته داود وأجرى خاتمه في ملكه ، فمال الناس إلى داود وأحبوه .

فحسده طالوت ، وأراد قتله غيلة ، فعلم ذلك داود ففارقه ، ووضع في مضجعه زق خمر وسجاه ، ودخل طالوت إلى منام داود ، وقد هرب داود ، فضرب الزق ضربة خرقه ، فوقعت قطرة من الخمر في فيه ، فقال : يرحم الله داود ما كان أكثر شربه الخمر ! فلما أصبح طالوت علم أنه لم يصنع شيئا ، فخاف داود أن يغتاله فشدد حجابه وحراسه .

ثم إن داود أتاه من القابلة في بيته وهو نائم فوضع سهمين فوق رأسه وعند رجليه ، فلما استيقظ طالوت بصر بالسهام فقال : يرحم الله داود ! هو خير مني ، ظفرت [ ص: 193 ] به وأردت قتله وظفر بي فكف عني . وأذكى عليه العيون فلم يظفروا به .

وركب طالوت يوما فرأى داود فركض في أثره ، فهرب داود منه واختفى في غار في الجبل ، فعمى الله أثره على طالوت .

ثم إن طالوت قتل العلماء حتى لم يبق أحد إلا امرأة كانت تعرف اسم الله الأعظم فسلمها إلى رجل يقتلها ، فرحمها وتركها وأخفى أمرها .

ثم إن طالوت ندم وأراد التوبة وأقبل على البكاء حتى رحمه الناس ، فكان كل ليلة يخرج إلى القبور فيبكي ويقول : أنشد الله عبدا علم لي توبة إلا أخبرني بها . فلما أكثر ناداه مناد من القبور : يا طالوت أما رضيت قتلنا أحياء حتى تؤذينا أمواتا ! فازداد بكاء وحزنا ، فرحمه الرجل الذي أمره بقتل تلك المرأة فقال له : إن دللتك على عالم لعلك تقتله ! قال : لا . فأخذ عليه العهود والمواثيق ثم أخبره بتلك المرأة فقال : سلها هل لي من توبة ؟ فحضر عندها وسألها هل له عندها من توبة ؟ فقالت : ما أعلم له من توبة ، ولكن هل تعلمون قبر نبي ؟ قالوا : نعم ، قبر يوشع بن نون . فانطلقت وهم معها فدعت ، فخرج يوشع ، فلما رآهم قال : ما بالكم ؟ قالوا : جئنا نسألك هل لطالوت من توبة ؟ قال : ما أعلم له توبة إلا أن يتخلى من ملكه ويخرج هو وولده فيقاتلوا في سبيل الله حتى تقتل أولاده ، ثم يقاتل هو حتى يقتل ، فعسى أن يكون له توبة ، ثم سقط ميتا . ورجع طالوت أحزن مما كان يخاف ألا يتابعه ولده ، فبكى حتى سقطت أشفار عينيه ونحل جسمه ، فسأله بنوه عن حاله ، فأخبرهم ، فتجهزوا للغزو فقاتلوا بين يديه حتى قتلوا ، ثم قاتل هو بعدهم حتى قتل .

وقيل : إن النبي الذي بعث لطالوت حتى أخبره بتوبته اليسع ، وقيل : أشمويل ، والله أعلم .

وكانت مدة ملك طالوت إلى أن قتل أربعين سنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية