صفحة جزء
[ ص: 262 ] 65

ثم دخلت سنة خمس وستين

ذكر مسير التوابين وقتلهم

لما أراد سليمان بن صرد الخزاعي الشخوص سنة خمس وستين بعث إلى رءوس أصحابه فأتوه ، فلما أهل ربيع الآخر خرج في وجوه أصحابه ، وكانوا تواعدوا للخروج تلك الليلة ، فلما أتى النخيلة دار في الناس فلم يعجبه عددهم ، فأرسل حكيم بن منقذ الكندي والوليد بن عصير الكناني ، فناديا في الكوفة : يا لثارات الحسين ! فكانا أول خلق الله دعوا : يا لثارات الحسين .

فأصبح من الغد وقد أتاه نحو مما في عسكره ، ثم نظر في ديوانه فوجدهم ستة عشر ألفا ممن بايعه ، فقال : سبحان الله ! ما وافانا من ستة عشر ألفا إلا أربعة آلاف .

فقيل له : إن المختار يثبط الناس عنك ، إنه قد تبعه ألفان .

فقال : قد بقي عشرة آلاف ، أما هؤلاء بمؤمنين ؟ أما يذكرون الله والعهود والمواثيق ؟ فأقام بالنخيلة ثلاثا يبعث إلى من تخلف عنه ، فخرج إليه نحو من ألف رجل .

فقام إليه المسيب بن نجبة فقال : رحمك الله ! إنه لا ينفعك الكاره ولا يقاتل معك إلا من أخرجته النية ، فلا تنتظر أحدا وجد في أمرك .

قال : نعم ما رأيت .

ثم قام سليمان في أصحابه فقال : أيها الناس من كان خرج يريد بخروجه وجه الله والآخرة فذلك منا ونحن منه فرحمة الله عليه حيا وميتا ، ومن كان إنما يريد الدنيا فوالله ما نأتي فيئا نأخذه وغنيمة نغنمها ما خلا رضوان [ الله ] ، وما معنا من ذهب ولا [ ص: 263 ] فضة ولا متاع ، وما هي إلا سيوفنا على عواتقنا ، وزاد قدر البلغة ، فمن كان ينوي غير هذا فلا يصحبنا .

فتنادى أصحابه من كل جانب : إنا لا نطلب الدنيا وليس لها خرجنا إنما خرجنا نطلب التوبة والطلب بدم ابن بنت رسول الله نبينا - صلى الله عليه وسلم - .

فلما عزم سليمان على المسير قال له عبد الله بن سعد بن نفيل : إني قد رأيت رأيا إن يكن صوابا فالله الموفق ، وإن يكن ليس صوابا فمن قبلي ، إنا خرجنا نطلب بدم الحسين ، وقتلته كلهم بالكوفة ، منهم عمر بن سعد ورءوس الأرباع والقبائل ، فأين نذهب ها هنا وندع الأوتار ؟ فقال أصحابه كلهم : هذا هو الرأي .

فقال سليمان : لكن أنا لا أرى ذلك ، إن الذي قتله وعبأ الجنود إليه وقال لا أمان له عندي دون أن يستسلم فأمضي فيه حكمي ، هذا الفاسق ابن الفاسق عبيد الله بن زياد ، فسيروا إليه على بركة الله فإن يظهركم الله عليه رجونا أن يكون من بعده أهون علينا منه ، ورجونا أن يدين لكم أهل مصركم في عافية فينظرون إلى كل من شرك في دم الحسين فيقتلونه ولا يغشموا ، وإن تستشهدوا فإنما قاتلتم المحلين ، وما عند الله خير للأبرار ، إني لا أحب أن تجعلوا جدكم بغير المحلين ، ولو قاتلتم أهل مصركم ما عدم رجل أن يرى رجلا قد قتل أخاه وأباه وحميمه ورجلا يريد قتله ، فاستخيروا الله وسيروا .

وبلغ عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة خروج ابن صرد ، فأتياه في أشراف أهل الكوفة ولم يصحبهم من شرك في دم الحسين خوفا منه ، وكان عمر بن سعد تلك الأيام يبيت في قصر الإمارة خوفا منهم .

فلما أتياه قال عبد الله بن يزيد : إن المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يغشه ، وأنتم إخواننا وأهل بلدنا وأحب أهل مصر خلقه الله إلينا ، فلا تفجعونا بأنفسكم ولا تنقصوا عددنا بخروجكم من جماعتنا ، أقيموا معنا حتى نتهيأ ، فإذا سار عدونا إلينا خرجنا إليه بجماعتنا فقاتلناه .

وجعل لسليمان وأصحابه خراج جوخى إن أقاموا . وقال إبراهيم بن محمد مثله ، فقال سليمان لهما : قد محضتما النصيحة واجتهدتما في المشورة ، فنحن بالله وله ، ونسأل الله العزيمة على الرشد ولا نرانا إلا سائرين . فقال عبد الله : فأقيموا حتى ( نعبي معكم جريدا كثيفا ) فتلقوا عدوكم بجمع كثيف . وكان قد بلغهم إقبال عبيد الله بن [ ص: 264 ] زياد من الشام في جنود .

فلم يقم سليمان ، فسار عشية الجمعة لخمس مضين من ربيع الآخر سنة خمس وستين ، فوصل دار الأهواز وقد تخلف عنه ناس كثير ، ( فقال : ما أحب أن من تخلف [ عنكم ] معكم ، لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ، إن الله كره انبعاثهم فثبطهم ، واختصكم بفضل ذلك ) .

ثم ساروا فانتهوا إلى قبر الحسين ، فلما وصلوا صاحوا صيحة واحدة ، فما رئي أكثر باكيا من ذلك اليوم ، فترحموا عليه وتابوا عنده من خذلانه ، وترك القتال معه وأقاموا عنده يوما وليلة يبكون ويتضرعون ويترحمون عليه وعلى أصحابه ، ( وكان من قولهم عند ضريحه : اللهم ارحم حسينا الشهيد ابن الشهيد ، المهدي ابن المهدي ، الصديق ابن الصديق ، اللهم إنا نشهدك أنا على دينهم وسبيلهم وأعداء قاتليهم وأولياء محبيهم ، اللهم إنا خذلنا ابن بنت نبينا - صلى الله عليه وسلم - فاغفر لنا ما مضى منا وتب علينا وارحم حسينا وأصحابه الشهداء الصديقين ، وإنا نشهدك أنا على دينهم وعلى ما قتلوا عليه ، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ! وزادهم النظر إليه حنقا ) .

ثم ساروا بعد أن كان الرجل يعود إلى ضريحه كالمودع له ، فازدحم الناس عليه أكثر من ازدحامهم على الحجر الأسود ، ثم أخذوا على الأنبار ، وكتب إليهم عبد الله بن يزيد كتابا ، منه : يا قومنا لا تطيعوا عدوكم ، أنتم في أهل بلادكم خيار كلكم ، ومتى يصبكم عدوكم يعلموا أنكم أعلام مصركم ، فيطمعهم ذلك فيمن وراءكم ، يا قومنا إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا ، يا قوم إن أيدينا وأيديكم واحدة وعدونا وعدوكم واحد ومتى تجتمع كلمتنا على عدونا نظهر على عدونا ومتى تختلف تهن شوكتنا على من خالفنا ، يا قومنا لا تستغشوا نصحي ، ولا تخالفوا أمري وأقبلوا حين يقرأ كتابي عليكم . والسلام .

[ ص: 265 ] فقال سليمان وأصحابه : قد أبينا هذا ونحن في مصرنا ، فحين وطنا أنفسنا على الجهاد ودنونا من أرض عدونا ، ما هذا برأي .

فكتب إليه سليمان يشكره ويثني عليه ويقول : إن القوم قد استبشروا ببيعهم أنفسهم من ربهم ، وإنهم قد تابوا من عظيم ذنبهم وتوجهوا إلى الله وتوكلوا عليه ورضوا بما قضى الله عليهم .

فلما جاء الكتاب إلى عبد الله قال : استمات القوم ، أول خبر يأتيكم عنهم قتلهم ، والله ليقتلن كراما مسلمين .

ثم ساروا حتى انتهوا إلى قرقيسيا على تعبية ، وبها زفر بن الحارث الكلابي قد تحصن بها منهم ولم يخرج إليهم ، فأرسل إليه المسيب بن نجبة يطلب إليه أن يخرج إليه سوقا ، فأتى المسيب إلى باب قرقيسيا فعرفهم نفسه وطلب الإذن على زفر ، فأتى هذيل بن زفر أباه فقال : هذا رجل حسن الهيئة اسمه المسيب بن نجبة يستأذن عليك .

فقال أبوه : أما تدري يا بني من هذا ؟ هذا فارس مضر الحمراء كلها ، إذا عد من أشرافها عشرة كان أحدهم هو ، وهو بعد رجل ناسك له دين ، إيذن له .

فأذن له ، فلما دخل عليه أجلسه إلى جانبه وسأله ، فعرفه المسيب حاله وما عزموا عليه ، فقال زفر : إنا لم نغلق أبواب المدينة إلا لنعلم إيانا تريدون أم غيرنا ، وما بنا عجز عن الناس وما نحب قتالكم ، وقد بلغنا عنكم صلاح وسيرة جميلة .

ثم أمر ابنه فأخرج لهم سوقا ، وأمر للمسيب بألف درهم وفرس ، فرد المال وأخذ الفرس وقال : لعلي أحتاج إليه إن عرج فرسي .

وبعث زفر إليهم بخبز كثير وعلف ودقيق حتى استغنى الناس عن السوق ، إلا أن الرجل كان يشتري سوطا أو ثوبا .

ثم ارتحلوا من الغد ، وخرج إليهم زفر يشيعهم وقال لسليمان : إنه قد سار خمسة أمراء من الرقة هم الحصين بن نمير ، وشرحبيل بن ذي الكلاع ، وأدهم بن محرز ، وجبلة بن عبد الله الخثعمي ، وعبيد الله بن زياد ، في عدد كثير مثل الشوك والشجر ، فإن شئتم دخلتم مدينتنا وكانت أيدينا واحدة ، فإذا جاءنا هذا العدو قاتلناهم جميعا .

فقال سليمان : قد طلب أهل مصرنا ذلك منا فأبينا عليهم .

قال زفر : فبادروهم إلى عين الوردة وهي رأس عين فاجعلوا المدينة في [ ص: 266 ] ظهوركم ويكون الرستاق والماء والمادة في أيديكم ، وما بيننا وبينكم فأنتم آمنون منه ، فاطووا المنازل ، فوالله ما رأيت جماعة قط أكرم منكم ، فإني أرجو أن تسبقوهم ، وإن قاتلتموهم فلا تقاتلوهم في فضاء ترامونهم وتطاعنونهم فإنهم أكثر منكم ، ولا آمن أن يحيطوا بكم ، فلا تقفوا لهم فيصرعوكم ، ولا تصفوا لهم ، فإني لا أرى معكم رجالة ومعهم الرجالة والفرسان بعضهم يحمي بعضا ، ولكن القوهم في الكتائب والمقانب ثم بثوها فيما بين ميمنتهم وميسرتهم واجعلوا مع كل كتيبة أخرى إلى جانبها ، فإن حمل على إحدى الكتيبتين رحلت الأخرى فنفست عنها ، ومتى شاءت كتيبة ارتفعت ، ومتى شاءت كتيبة انحطت ، ولو كنتم صفا واحدا فزحفت إليكم الرجالة فدفعتم عن الصف انتقض فكانت الهزيمة .

ثم ودعهم ودعا لهم ودعوا له وأثنوا عليه .

ثم ساروا مجدين فانتهوا إلى عين الوردة فنزلوا غربيها وأقاموا خمسا فاستراحوا وأراحوا .

وأقبل أهل الشام في عساكرهم حتى كانوا من عين الوردة على مسيرة يوم وليلة ، فقام سليمان في أصحابه وذكر الآخرة ورغب فيها ثم قال : أما بعد فقد أتاكم عدوكم الذي دأبتم إليه في السير آناء الليل والنهار ، فإذا لقيتموهم فاصدقوهم القتال واصبروا ، إن الله مع الصابرين ، ولا يولينهم امرؤ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة ، ولا تقتلوا مدبرا ، ولا تجهزوا على جريح ، ولا تقتلوا أسيرا من أهل دعوتكم إلا أن يقاتلكم بعد أن تأسروه ، فإن هذه كانت سيرة علي في أهل هذه الدعوة .

ثم قال : إن أنا قتلت فأمير الناس مسيب بن نجبة ، فإن قتل فالأمير عبد الله بن سعد بن نفيل ، فإن قتل فالأمير عبد الله بن وال ، فإن قتل فالأمير رفاعة بن شداد ، رحم الله امرأ صدق ما عاهد الله عليه .

ثم بعث المسيب في أربعمائة فارس ثم قال : سر حتى تلقى أول عساكرهم فشن عليهم [ الغارة ] ، فإن رأيت ما تحبه وإلا رجعت ، وإياك أن تنزل [ أو تدع ] أحدا من أصحابك ينزل أو يستقبل آخر ذلك ، حتى لا تجد منه بدا .

فسار يومه وليلته ثم نزل السحر . فلما أصبحوا أرسل أصحابه في الجهات ليأتوه بمن يلقون ، فأتوه بأعرابي ، فسأله عن أدنى العساكر منه ، فقال : أدنى عسكر من عساكرهم منك عسكر شرحبيل بن ذي الكلاع ، وهو منك على رأس ميل ، وقد اختلف هو والحصين ، ادعى الحصين أنه على الجماعة وأبى شرحبيل ذلك ، وهما ينتظران أمر ابن زياد .

[ ص: 267 ] فسار المسيب ومن معه مسرعين فأشرفوا عليهم وهم غارون ، فحملوا في جانب عسكرهم ، فانهزم العسكر وأصاب المسيب منهم رجالا ، فأكثروا فيهم الجراح وأخذوا الدواب ، وخلى الشاميون عسكرهم وانهزموا ، فغنم منه أصحاب المسيب ما أرادوا ثم انصرفوا إلى سليمان موفورين .

وبلغ الخبر ابن زياد فسرح الحصين بن نمير مسرعا حتى نزل في اثني عشر ألفا ، فخرج أصحاب سليمان إليه لأربع بقين من جمادى الأولى ، وعلى ميمنتهم عبد الله بن سعد ، وعلى ميسرتهم المسيب بن نجبة ، وسليمان في القلب ، وجعل الحصين على ميمنته جملة بن عبد الله ، وعلى ميسرته ربيعة بن المخارق الغنوي ، فلما دنا بعضهم من بعض دعاهم أهل الشام إلى الجماعة على عبد الملك بن مروان ، ودعاهم أصحاب سليمان إلى خلع عبد الملك وتسليم عبيد الله بن زياد إليهم وأنهم يخرجون من بالعراق من أصحاب ابن الزبير ثم يرد الأمر إلى أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - .

فأبى كل منهم ، فحملت ميمنة سليمان على ميسرة الحصين ، والميسرة أيضا على الميمنة ، وحمل سليمان في القلب على جماعتهم ، فانهزم أهل الشام إلى عسكرهم ، وما زال الظفر لأصحاب سليمان إلى أن حجز بينهم الليل .

فلما كان الغد صبح الحصين جيش مع ابن ذي الكلاع ثمانية آلاف ، أمدهم بهم عبيد الله بن زياد ، وخرج أصحاب سليمان فقاتلوهم قتالا لم يكن أشد منه جميع النهار ، لم يحجز بينهم إلا الصلاة ، فلما أمسوا تحاجزوا وقد كثرت الجراح في الفريقين ، وطاف القصاص على أصحاب سليمان يحرضونهم .

فلما أصبح أهل الشام أتاهم أدهم بن محرز الباهلي في نحو من عشرة آلاف من ابن زياد ، فاقتتلوا يوم الجمعة قتالا شديدا إلى ارتفاع الضحى ، ثم إن أهل الشام كثروهم وتعطفوا عليهم من كل جانب ، ورأى سليمان ما لقي أصحابه ، فنزل ونادى : عباد الله من أراد البكور إلى ربه والتوبة من ذنبه فإلي ! ثم كسر جفنة سيفه ونزل معه ناس كثير وكسروا جفون سيوفهم ومشوا معه ، فقاتلوهم ، فقتل من أهل الشام مقتلة عظيمة ، وجرحوا فيهم فأكثروا الجراح .

فلما رأى الحصين صبرهم وبأسهم بعث الرجالة ترميهم بالنبل واكتنفتهم الخيل والرجال ، فقتل سليمان ، رحمه الله ، رماه يزيد بن الحصين بسهم فوقع ، ثم وثب ثم وقع .

[ ص: 268 ] فلما قتل سليمان أخذ الراية المسيب بن نجبة وترحم على سليمان ثم تقدم فقاتل بها ساعة ثم رجع ثم حمل ، فعل ذلك مرارا ، ثم قتل ، رحمه الله ، بعد أن قتل رجالا .

فلما قتل أخذ الراية عبد الله بن سعد بن نفيل وترحم عليهما ، ثم قرأ : فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا . وحف به من كان معه من الأزد . فبينما هم في القتال أتاهم فرسان ثلاثة من سعد بن حذيفة يخبرون بمسيرهم في سبعين ومائة من أهل المدائن ويخبرون أيضا بمسير أهل البصرة مع المثنى بن مخربة العبدي في ثلاثمائة ، ( فسر الناس ) فقال عبد الله بن سعد : ذلك لو جاءونا ونحن أحياء .

فلما نظر الرسل إلى مصارع إخوانهم ساءهم ذلك واسترجعوا وقاتلوا معهم ، وقتل عبد الله بن سعد بن نفيل ، قتله ابن أخي ربيعة بن مخارق ، وحمل خالد بن سعد بن نفيل على قاتل أخيه فطعنه بالسيف ، واعتنقه الآخر فحمل أصحابه عليه فخلصوه بكثرتهم وقتلوا خالدا ، وبقيت الراية ليس عندها أحد ، فنادوا عبد الله بن وال فإذا هو قد اصطلى الحرب في عصابة معه ، فحمل رفاعة بن شداد فكشف أهل الشام عنه ، فأتى فأخذ الراية وقاتل مليا ثم قال لأصحابه : من أراد الحياة التي ليس بعدها موت ( والراحة التي ليس بعدها نصب ، والسرور الذي ليس بعده حزن ) ، فليتقرب إلى الله بقتال هؤلاء المحلين ، والرواح إلى الجنة ، وذلك عند العصر ، فحمل هو وأصحابه فقتلوا رجالا وكشفوهم .

ثم إن أهل الشام تعطفوا عليهم من كل جانب حتى ردوهم إلى المكان الذي كانوا فيه ، وكان مكانهم لا يؤتى إلا من وجه واحد ، فلما كان المساء تولى قتالهم أدهم بن محرز الباهلي فحمل عليهم في خيله ورجله ، فوصل ابن محرز إلى ابن وال وهو يتلو : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا الآية ، فغاظ ذلك أدهم بن محرز فحمل عليه فضرب يده فأبانها ثم تنحى عنه وقال : إني أظنك وددت أنك عند أهلك .

قال ابن وال : بئس ما ظننت ، والله ما أحب أن يدك مكانها إلا أن يكون لي من الأجر مثل ما في يدي ليعظم وزرك ويعظم أجري .

فغاظه ذلك أيضا ، فحمل عليه وطعنه [ ص: 269 ] فقتله وهو مقبل ما يزول .

وكان ابن وال من الفقهاء العباد ، فلما قتل أتوا رفاعة بن شداد البجلي وقالوا : لتأخذ الراية . فقال : ارجعوا بنا لعل الله يجمعنا ليوم شرهم .

فقال له عبد الله بن عوف بن الأحمر : هلكنا والله ، لئن انصرفت ليركبن أكتافنا فلا نبلغ فرسخا حتى نهلك عن آخرنا ، وإن نجا منا ناج أخذته العرب يتقربون به إليهم فقتل صبرا ، هذه الشمس قد قاربت الغروب فنقاتلهم على خيلنا ، فإذا غسق الليل ركبنا خيولنا أول الليل وسرنا حتى نصبح ونسير على مهل ، ويحمل الرجل صاحبه وجريحه ونعرف الوجه الذي نأخذه .

فقال رفاعة : نعم ما رأيت ! وأخذ الراية وقاتلهم قتالا شديدا ، ورام أهل الشام إهلاكهم قبل الليل فلم يصلوا إلى ذلك لشدة قتالهم ، وتقدم عبد الله بن عزيز الكناني فقاتل أهل الشام ومعه ولده محمد وهو صغير ، فنادى بني كنانة من أهل الشام وسلم ولده إليهم ليوصلوه إلى الكوفة ، فعرضوا عليه الأمان ، فأبى ثم قاتلهم حتى قتل .

وتقدم كرب بن يزيد الحميري عند المساء في مائة من أصحابه فقاتلهم أشد قتال ، فعرض عليه وعلى أصحابه ابن ذي الكلاع الحميري الأمان ، قال : قد كنا آمنين في الدنيا وإنما خرجنا نطلب أمان الآخرة . فقاتلوهم حتى قتلوا .

وتقدم صخر بن هلال المزني في ثلاثين من مزينة فقاتلوا حتى قتلوا .

فلما أمسوا رجع أهل الشام إلى معسكرهم ، ونظر رفاعة إلى كل رجل قد عقر به فرسه وجرح فدفعه إلى قومه ثم سار بالناس ليلته ، وأصبح الحصين ليلتقيهم فلم يرهم ، فلم يبعث في آثارهم ، وساروا حتى أتوا قرقيسيا ، فعرض عليهم زفر الإقامة ، فأقاموا ثلاثا ، فأضافهم ثم زودهم وساروا إلى الكوفة .

ثم أقبل سعد بن حذيفة بن اليمان في أهل المدائن فبلغ هيت ، فأتاه الخبر ، فرجع فلقي المثنى بن مخربة العدوي في أهل البصرة بصندوداء فأخبره ، فأقاموا حتى أتاهم رفاعة فاستقبلوه ، وبكى بعضهم إلى بعض وأقاموا يوما وليلة ثم تفرقوا ، فسار كل طائفة إلى بلدهم .

ولما بلغ رفاعة الكوفة كان المختار محبوسا ، فأرسل إليه : أما بعد فمرحبا بالعصبة [ ص: 270 ] الذين عظم الله لهم الأجر حين انصرفوا ورضي فعلهم حين قتلوا ، أما ورب البيت ما خطا خاط منكم خطوة ولا ربا ربوة إلا كان ثواب الله له أعظم من الدنيا ! إن سليمان قد قضى ما عليه وتوفاه الله ( وجعل وجهه مع أرواح النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ) ، ولم يكن بصاحبكم الذي به تنصرون ، إني أنا الأمير المأمور ، والأمين المأمون ، وقاتل الجبارين ، والمنتقم من أعداء الدين ، المقيد من الأوتار ، فأعدوا واستعدوا وأبشروا ، أدعوكم إلى كتاب الله ، وسنة نبيه ، والطلب بدم أهل البيت ، والدفع عن الضعفاء ، وجهاد المحلين ، والسلام .

( وكان قتل سليمان ومن معه في شهر ربيع الآخر ) .

ولما سمع عبد الملك بن مروان بقتل سليمان وانهزام أصحابه صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال : أما بعد فإن الله ( قد أهلك من رءوس أهل العراق ملقح فتنة ورأس ضلالة سليمان بن صرد ، ألا وإن السيوف تركن رأس المسيب خذاريف ، وقد قتل الله ) منهم رأسين عظيمين ضالين مضلين : عبد الله بن سعد الأزدي ، وعبد الله بن وال البكري ، ولم يبق بعدهم من عنده امتناع ، وفي هذا نظر ، فإن أباه كان حيا ، قال أعشى همدان في ذلك ، وهي مما يكتم ذلك الزمان :


ألم خيال منك يا أم غالب فحييت عنا من حبيب مجانب     وما زلت في شجو وما زلت مقصدا
لهم عراني من فراقك ناصب     فما أنس لا أنس انفتالك في الضحى
إلينا مع البيض الحسان الخراعب      [ ص: 271 ] تراءت لنا هيفاء مهضومة الحشا
لطيفة طي الكشح ريا الحقائب     مبتلة غراء رؤد شبابها
كشمس الضحى تنكل بين السحائب     فلما تغشاها السحاب وحوله بدا
حاجب منها وضنت بحاجب     فتلك الهوى وهي الجوى لي والمنى
فأحبب بها من خلة لم تصاقب     ولا يبعد الله الشباب وذكره
وحب تصافي المعصرات الكواعب     ويزداد ما أحببته من عتابنا
لعابا وسقيا للخدين المقارب     فإني وإن لم أنسهن لذاكر
رزيئة مخبات كريم المناصب     توسل بالتقوى إلى الله صادقا
وتقوى الإله خير تكساب كاسب     وخلى عن الدنيا فلم يلتبس بها
وتاب إلى الله الرفيع المراتب     تخلى عن الدنيا وقال اطرحتها
فلست إليها ما حييت بآيب     وما أنا فيما يكره الناس فقده
ويسعى له الساعون فيها براغب     فوجهه نحو الثوية سائرا
إلى ابن زياد في الجموع الكتائب     بقوم هم أهل التقية والنهى
مصاليت أنجاد سراة مناجب     مضوا تاركي رأي ابن طلحة حسبة
ولم يستجيبوا للأمير المخاطب     فساروا وهم ما بين ملتمس التقى
وآخر مما جر بالأمس تائب     فلاقوا بعين الوردة الجيش فاصلا
إليهم فحسوهم ببيض قواضب     يمانية تذري الأكف وتارة
بخيل عتاق مقربات سلاهب      [ ص: 272 ] [ ص: 273 ] فجاءهم جمع من الشام بعده
جموع كموج البحر من كل جانب     فما برحوا حتى أبيدت سراتهم
فلم ينج منهم ثم غير عصائب     وغودر أهل الصبر صرعى فأصبحوا
تعاورهم ريح الصبا والجنائب     فأضحى الخزاعي الرئيس مجدلا
كأن لم يقاتل مرة ويحارب     ورأس بني شمخ وفارس قومه
شنوءة والتيمي هادي الكتائب     وعمرو بن بشر والوليد وخالد
وزيد بن بكر والحليس بن غالب     وضارب من همدان كل مشيع
إذا شد لم ينكل كريم المكاسب     ومن كل قوم قد أصيب زعيمهم
وذو حسب في ذروة المجد ثاقب     أبوا غير ضرب يفلق الهام وقعه
وطعن بأطراف الأسنة صائب     وإن سعيدا يوم يدمر عامرا
لأشجع من ليث بدرب مواثب     فيا خير جيش بالعراق وأهله
سقيتم روايا كل أسحم ساكب     فلا يبعدن فرساننا وحماتنا
إذا البيض أبدت عن خدام الكواعب     وما قتلوا حتى أثاروا عصابة
محلين نورا كالشموس الضوارب

وقيل : قتل سليمان ومن معه في شهر ربيع الآخر .

الخزاعي الذي هو في هذا الشعر هو سليمان بن صرد الخزاعي . ورأس بني شمخ هو المسيب بن نجبة الفزاري . ورأس شنوءة هو عبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي ، أزد [ ص: 273 ] شنوءة . والتيمي هو عبد الله بن وال التيمي من تيم اللات بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل . والوليد [ هو ] ابن عصير الكناني . وخالد هو خالد بن سعد بن نفيل أخو عبد الله .

( نجبة بالنون والجيم والباء الموحدة المفتوحات ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية