صفحة جزء
ذكر مسير عبد الرحمن إلى رتبيل وما جرى له ولأصحابه

ولما انهزم عبد الرحمن من مسكن سار إلى سجستان ، فأتبعه الحجاج ابنه محمدا ، وعمارة بن تميم اللخمي ، وعمارة على الجيش ، فأدركه عمارة بالسوس فقاتله ساعة ، فانهزم عبد الرحمن ومن معه ، وساروا حتى أتوا سابور ، واجتمع إليه الأكراد ، فقاتلهم عمارة قتالا شديدا على العقبة ، فجرح عمارة وكثير من أصحابه ، وانهزم عمارة وترك لهم العقبة .

وسار عبد الرحمن حتى أتى كرمان وعمارة يتبع أثرهم ، فدخل بعض أهل الشام قصرا في مفازة كرمان ، فإذا فيه كتاب قد كتبه بعض أهل الكوفة من شعر ابن جلدة اليشكري ، وهي طويلة :

أيا لهفا ويا حزنا جميعا ويا حر الفؤاد لما لقينا     تركنا الدين والدنيا جميعا
وأسلمنا الحلائل والبنينا     فما كنا أناسا أهل دين
فنصبر في البلاء إذا ابتلينا     فما كنا أناسا أهل دنيا
فنمنعها ولو لم نرج دينا     تركنا دورنا لطغام عك
وأنباط القرى والأشعرينا



[ ص: 506 ] فلما وصل عبد الرحمن إلى كرمان أتاه عامله ، وقد هيأ له نزلا فنزل ، ثم رحل إلى سجستان ، فأتى زرنج وفيها عامله ، فأغلق بابها ومنع عبد الرحمن من دخولها ، فأقام عليها أياما ليفتحها فلم يصل إليها ، فسار إلى بست ، وكان قد استعمل عليها عياض بن هميان بن هشام السدوسي الشيباني ، فاستقبله وأنزله ، فلما غفل أصحابه قبض عليه عياض وأوثقه ، وأراد أن يأمن به عند الحجاج .

وقد كان رتبيل ملك الترك سمع بمقدم عبد الرحمن ، فسار إليه ليستقبله ، فلما قبضه عياض نزل رتبيل على بست ، وبعث إلى عياض يقول : والله لئن آذيته بما يقذي عينه ، أو ضررته ببعض الضرر ، أو أخذت منه ولو حبلا من شعر لا أبرح حتى أستنزلك وأقتلك وجميع من معك ، وأسبي ذراريكم ، وأغنم أموالكم . فاستأمنه عياض ، فأطلق عبد الرحمن ، فأراد قتل عياض فمنعه رتبيل .

ثم سار عبد الرحمن مع رتبيل إلى بلاده ، فأنزله وأكرمه وعظمه . وكان ناس كثير من المنهزمين من أصحاب عبد الرحمن من الرءوس والقادة الذين لم يقبلوا أمان الحجاج ونصبوا له العداوة في كل موطن - قد تبعوا عبد الرحمن ، فبلغوا سجستان في نحو ستين ألفا ، ونزلوا على زرنج يحاصرون من بها ، وكتبوا إلى عبد الرحمن يستدعونه ويخبرونه أنهم على قصد خراسان ليقووا بمن بها من عشائرهم ، فأتاهم ، وكان يصلي بهم عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، إلى أن قدم عبد الرحمن . فلما أتت كتبهم عبد الرحمن سار إليهم ، ففتحوا زرنج ، وسار نحوهم عمارة بن تميم في أهل الشام ، فقال لعبد الرحمن أصحابه : اخرج بنا عن سجستان إلى خراسان . فقال : إن بها يزيد بن المهلب وهو رجل شجاع ، ولا يترك لكم سلطانه ، ولو دخلناها لقاتلنا وتبعنا أهل الشام ، فيجتمع علينا أهل خراسان وأهل الشام . فقالوا : لو دخلنا خراسان لكان من يتبعنا أكثر ممن يقاتلنا .

فسار معهم حتى بلغوا هراة ، فهرب من أصحابه عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة القرشي في ألفين ، فقال لهم عبد الرحمن : إني كنت في مأمن وملجإ ، فجاءتني كتبكم أن أقبل فإن أمرنا واحد ، فلعلنا نقاتل عدونا ، فأتيتكم ، فرأيتم أن أمضي إلى خراسان ، وزعمتم أنكم تجتمعون إلي وأنكم لا تتفرقون ، وهذا عبيد الله قد صنع ما رأيتم ، فاصنعوا ما بدا لكم ، أما أنا فمنصرف إلى صاحبي الذي أتيت من عنده .

فتفرق منهم طائفة وبقي معه طائفة ، وبقي أعظم العسكر مع عبد الرحمن بن العباس فبايعوه ، ومضى عبد الرحمن بن الأشعث إلى رتبيل ، وسار عبد الرحمن بن [ ص: 507 ] العباس إلى هراة ، فلقوا بها الرقاد الأزدي فقتلوه ، فسار إليهم يزيد بن المهلب .

وقيل : إن عبد الرحمن بن الأشعث لما انهزم من مسكن أتى عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة هراة ، وأتى عبد الرحمن بن العباس سجستان ، فاجتمع فل ابن الأشعث ، فسار إلى خراسان في عشرين ألفا ، فنزل هراة ، ولقوا الرقاد فقتلوه ، فأرسل إليه يزيد بن المهلب : قد كان لك في البلاد متسع ومن هو أهون مني شوكة ، فارتحل إلى بلد ليس لي فيه سلطان ، فإني أكره قتالك ، وإن أردت مالا أرسلت إليك . فأعاد الجواب : إنا ما نزلنا لمحاربة ولا لمقام ، ولكنا أردنا أن نريح ثم نرحل عنك ، وليست بنا إلى المال حاجة .

وأقبل عبد الرحمن بن العباس على الجباية ، وبلغ ذلك يزيد فقال : من أراد أن يريح ثم يرتحل لم يجب الخراج . فسار يزيد نحوه وأعاد مراسلته : إنك قد أرحت وسمنت وجبيت الخراج ، فلك ما جبيت وزيادة ، فاخرج عني فإني أكره قتالك . فأبى إلا القتال ، وكاتب جند يزيد يستميلهم ، ويدعوهم إلى نفسه ، فعلم يزيد فقال : جل الأمر عن العتاب . ثم تقدم إليه فقاتله ، فلم يكن بينهم كثير قتال حتى تفرق أصحاب عبد الرحمن عنه ، وصبر وصبرت معه طائفة ثم انهزموا ، وأمر يزيد أصحابه بالكف عن اتباعهم ، وأخذوا ما كان في عسكرهم ، وأسروا منهم أسرى ، وكان منهم : محمد بن سعد بن أبي وقاص ، وعمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر ، وعباس بن الأسود بن عوف الزهري ، والهلقام بن نعيم بن القعقاع بن معبد بن زرارة ، وفيروز حصين ، وأبو الفلج مولى عبيد الله بن معمر ، وسوار بن مروان ، وعبد الرحمن بن طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي ، وعبد الله بن فضالة الزهراني الأزدي .

ولحق عبد الرحمن بن العباس بالسند ، وأتى ابن سمرة مرو ، وانصرف يزيد إلى مرو ، وبعث الأسرى إلى الحجاج مع سبرة ونجدة ، فلما أراد تسييرهم قال له أخوه حبيب : بأي وجه تنظر إلى اليمانية وقد بعثت عبد الرحمن بن طلحة ؟ فقال يزيد : إنه الحجاج ولا يتعرض له . قال : وطن نفسك على العزل ، ولا ترسل به ، فإن له عندنا يدا . قال : وما هي ؟ قال : ألزم المهلب في مسجد الجماعة بمائة ألف ، فأداها طلحة عنه . فأطلقه يزيد ، ولم يرسل يزيد أيضا عبد الله بن فضالة لأنه من الأزد ، وأرسل الباقين .

فلما قدموا على الحجاج قال لحاجبه : إذا دعوتك بسيدهم فأتني بفيروز . وكان بواسط القصب قبل أن تبنى مدينة واسط . فقال لحاجبه : ائتني بسيدهم . فقال [ ص: 508 ] لفيروز : قم . فقام ، فأحضره عنده . فقال له الحجاج : أبا عثمان ، ما أخرجك مع هؤلاء ؟ فوالله ما لحمك من لحومهم ، ولا دمك من دمائهم ! قال : فتنة عمت الناس . قال : اكتب إلي أموالك . قال : اكتب يا غلام ألف ألف وألفي ألف ، فذكر مالا كثيرا . فقال الحجاج : أين هذه الأموال ؟ قال : عندي . قال : فأدها . قال : وأنا آمن على دمي ؟ قال : والله لتؤدينها ثم لأقتلنك . قال : والله لا يجمع بين دمي ومالي . فأمر به فنحي .

ثم أحضر محمد بن سعد بن أبي وقاص فقال له : يا ظل الشيطان ! أعظم الناس تيها وكبرا تأبى بيعة يزيد بن معاوية ، وتتشبه بالحسين وبابن عمر ، ثم ضربت مؤذنا ؟ وجعل يضرب رأسه بعود في يده حتى أدماه ، ثم أمر به فقتل . ثم دعا بعمر بن موسى فقال : يا عبد المرأة ! أتقوم بالعمود على رأس ابن الحائك ، يعني ابن الأشعث ، وتشرب معه في الحمام ! فقال : أصلح الله الأمير ، كانت فتنة شملت البر والفاجر فدخلنا فيها ، فقد أمكنك الله منا ، فإن عفوت فبحلمك وبفضلك ، وإن عاقبت عاقبت ظلمة مذنبين . فقال الحجاج : أما أنها شملت البر فكذبت ، ولكنها شملت الفاجر ، وعوفي منها الأبرار ، وأما اعترافك فعسى أن ينفعك . ورجا له الناس السلامة ، ثم أمر به فقتل . ثم دعا بالهلقام بن نعيم فقال : أحببت أن ابن الأشعث طلب ما طلب ، ما الذي أملت أنت معه ؟ قال : أملت أن يملك فيوليني العراق كما ولاك عبد الملك إياه . فأمر به فقتل . ثم دعا عبد الله بن عامر ، فلما أتاه قال له الحجاج : لا رأت عينك الجنة إن أفلت ! فقال : جزى الله ابن المهلب بما صنع . قال : وما صنع ؟ قال : لأنه كاس في إطلاق أسرته وقاد نحوك في أغلالها مضرا وقى بقومك ورد الموت أسرته وكان قومك أدنى عنده خطرا

فأطرق الحجاج ووقرت في قلبه وقال : وما أنت وذاك ؟ فأمر به فقتل .

ولم تزل كلمته في نفس الحجاج حتى عزل يزيد عن خراسان وحبسه .

ثم أمر بفيروز فعذب ، وكان يشد عليه القصب الفارسي المشقوق ، يجر عليه حتى يجرح به ، ثم ينضح عليه الخل ، فلما أحس بالموت قال لصاحب العذاب : إن الناس لا يشكون أن قد قتلت ، ولي ودائع وأموال عند الناس لا تؤدى إليكم أبدا ، فأظهرني للناس ليعلموا أني حي فيؤدوا المال . فأعلم الحجاج ، فقال : أظهره . فأخرج إلى باب المدينة ، فصاح في الناس : من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا فيروز حصين ، [ ص: 509 ] إن لي عند أقوام مالا ، فمن كان لي عنده شيء فهو له ، وهو منه في حل ، فلا يؤد أحد منهم درهما ، ليبلغ الشاهد الغائب . فأمر به الحجاج فقتل .

وأمر بقتل عمر بن أبي قرة الكندي ، وكان شريفا ، وأمر بإحضار أعشى همدان ، فقال : إيه عدو الله ! أنشدني قولك بين الأشج وبين قيس . قال : بل أنشدك ما قلت لك . قال : بل أنشدني هذه . فأنشده :

أبى الله إلا أن يتمم نوره     ويطفئ نار الفاسقين فتخمدا
ويظهر أهل الحق في كل موطن     ويعدل وقع السيف من كان أصيدا
وينزل ذلا بالعراق وأهله     لما نقضوا العهد الوثيق المؤكدا
وما أحدثوا من بدعة وعظيمة     من القول لم تصعد إلى الله مصعدا
وما نكثوا من بيعة بعد بيعة     إذا ضمنوها اليوم خاسوا بها غدا
وجبنا حشاه ربهم في قلوبهم     فما يقربون الناس إلا تهددا
فلا صدق في قول ولا صبر     عندهم ولكن فخرا فيهم وتزيدا
فكيف رأيت الله فرق جمعهم     ومزقهم عرض البلاد وشردا
فقتلاهم قتلى ضلال وفتنة     وجيشهم أمسى ذليلا مطردا
ولما زحفنا لابن يوسف غدوة     وأبرق منه العارضان وأرعدا
قطعنا إليه الخندقين وإنما     قطعنا وأفضينا إلى الموت مرصدا
فكافحنا الحجاج دون صفوفنا     كفاحا ولم يضرب لذلك موعدا
[ ص: 510 ] بصف كأن الموت في حجزاتهم     إذا ما تجلى بيضه وتوقدا
دلفنا إليه في صفوف كأنها     جبال شرورى أو نعاف فشهمدا
فما لبث الحجاج أن سل سيفه     علينا فولى جمعنا وتبددا
وما زاحف الحجاج إلا رأيته     معانا ملقى للفتوح معودا
وإن ابن عباس لفي مرجحنة     نشبهها قطعا من الليل أسودا
فما شرعوا رمحا ولا جردوا     ظبى ألا إنما لاقى الجبان فجردا
وكرت علينا خيل سفيان كرة     بفرسانها والسمهري مقصدا
وسفيان يهديها كأن لواءها     من الطعن سند بات بالصبغ مجسدا
كهول ومرد من قضاعة حوله     مساعير أبطال إذا النكس عردا
إذا قال شدوا شدة حملوا معا     فأنهل خرصان الرماح وأوردا
جنود أمير المؤمنين وخيله     وسلطانه أمسى عزيزا مؤيدا
فيهني أمير المؤمنين ظهوره     على أمة كانوا سعاة وحسدا
نزوا يشتكون البغي من أمرائهم     وكانوا هم أبغى البغاة وأعندا
وجدنا بني مروان خير أئمة     وأفضل هذا الناس حلما وسؤددا
وخير قريش في قريش أرومة     وأكرمهم إلا النبي محمدا
[ ص: 511 ] إذا ما تدبرنا عواقب أمره     وجدنا أمير المؤمنين مسددا
سيغلب قوما حاربوا الله     جهرة وإن كايدوه كان أقوى وأكيدا
كذاك يضل الله من كان قلبه     مريضا ومن والى النفاق وألحدا
وقد تركوا الأهلين والمال خلفهم     وبيضا عليهن الجلابيب خردا
يناديهم مستعبرات إليهم ويذرين     دمعا في الخدود وإثمدا
أنكثا وعصيانا وغدرا وذلة     أهان الإله من أهان وأبعدا
لقد شأم المصرين فرخ محمد     بحق وما لاقى من الطير أسعدا
كما شأم الله النجير وأهله     بجد له قد كان أشقى وأنكدا



فقال . أهل الشام : أحسن ، أصلح الله الأمير . فقال الحجاج : لا ، لم يحسن ، إنكم لا تدرون ما أراد بها . ثم قال : يا عدو الله ! والله لا نحمدك [ على هذا القول ] ، إنما قلت تأسف أن لا يكون ظهر وظفر ، وتحريضا لأصحابك علينا ، وليس عن هذا سألناك ، أنشدنا قولك بين الأشج وبين قيس باذخ ، فأنشده ، فلما قال : بخ بخ لوالده وللمولود قال الحجاج : والله لا تبخبخ بعدها أبدا ! فضربت عنقه .

قوله في هذه الأبيات : ابن عباس ، هو عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، وقد تقدم ذكره . وقوله : سفيان ، هو ابن الأبرد الكلبي من قواد العساكر الشامية . وقوله : فرخ محمد ، هو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث . وقوله : [ ص: 512 ] الأشج ، هو محمد بن الأشعث . وقوله : بين قيس ، هو معقل بن قيس الرياحي ، وهو جد عبد الرحمن بن محمد لأمه . وقوله : كما شأم الله النجير وأهله بجد له ، يعني لما ارتد الأشعث بن قيس جد عبد الرحمن بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتبعه كندة ، فلما حاربهم المسلمون وحصروهم بالنجير أخذوهم وقتلوهم ، وقد تقدم ذكر ذلك في قتل أهل الردة .

قيل : وأتي الحجاج بأسيرين فأمر بقتلهما ، فقال أحدهما : إن لي عندك يدا . قال : وما هي ؟ قال : ذكر عبد الرحمن يوما أمك بسوء فنهيته . قال : ومن يعلم ذلك ؟ قال : هذا الأسير الآخر ، فسأله الحجاج فصدقه ، فقال له الحجاج : فلم لم تفعل كما فعل ؟ قال : وينفعني الصدق عندك ؟ قال نعم . قال : منعني البغض لك ولقومك . قال : خلوا عن هذا لفعله ، وعن هذا لصدقه .

قيل : جاء رجل من الأنصار إلى عمر بن عبد العزيز فقال : أنا فلان بن فلان ، قتل جدي يوم بدر ، وقتل جدي فلان يوم أحد ، وجعل يذكر مناقب سلفه ، فنظر عمر إلى عنبسة بن سعيد بن العاص فقال : هذه المناقب والله ، لا يوم مسكن ويوم الجماجم ويوم راهط ! وأنشد : تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

التالي السابق


الخدمات العلمية