صفحة جزء
ذكر موت عبد العزيز بن مروان والبيعة للوليد بولاية العهد

كان عبد الملك بن مروان أراد أن يخلع أخاه عبد العزيز من ولاية العهد ، ويبايع لابنه الوليد بن عبد الملك ، فنهاه عن ذلك قبيصة بن ذؤيب وقال : لا تفعل ، فإنك تبعث [ ص: 528 ] على نفسك صوت عار ، ولعل الموت يأتيه [ فتستريح منه ] . فكف عنه ونفسه تنازعه إلى خلعه . فدخل عليه روح بن زنباع ، وكان أجل الناس عند عبد الملك ، فقال : يا أمير المؤمنين ، لو خلعته ما انتطح فيه عنزان ، وأنا أول من يجيبك إلى ذلك . قال : نصبح إن شاء الله . ونام روح عند عبد الملك ، فدخل عليهما قبيصة بن ذؤيب وهما نائمان ، وكان عبد الملك قد تقدم إلى حجابه أن لا يحجبوا قبيصة عنه ، وكان إليه الخاتم والسكة ، تأتيه الأخبار قبل عبد الملك والكتب . فلما دخل سلم عليه ، قال : آجرك الله في عبد العزيز أخيك . قال : هل توفي ؟ قال : نعم . فاسترجع ثم أقبل على روح وقال : كفانا الله ما كنا نريد ، وكان ذلك مخالفا لك يا قبيصة . فقال قبيصة : يا أمير المؤمنين ، إن الرأي كله في الأناة ، فقال عبد الملك : وربما كان في العجلة خير كثير ، رأيت أمر عمرو بن سعيد ، ألم تكن العجلة فيه خيرا من الأناة ؟

وكانت وفاة عبد العزيز في جمادى الأولى في مصر ، فضم عبد الملك عمله إلى ابنه عبد الله بن عبد الملك وولاه مصر .

وقيل : إن الحجاج كتب إلى عبد الملك يزين له بيعة الوليد ، وأوفد في ذلك وفدا ، فلما أراد عبد الملك خلع عبد العزيز والبيعة للوليد كتب إلى عبد العزيز : إن رأيت أن يصير هذا الأمر لابن أخيك . فأبى ، فكتب إليه ليجعل الأمر له ، ويجعله له أيضا من بعده . فكتب إليه عبد العزيز : إني أرى في ابني أبي بكر ما ترى في الوليد . فكتب إليه عبد الملك ليحمل خراج مصر ، فأجابه عبد العزيز : إني وإياك يا أمير المؤمنين قد بلغنا سنا لم يبلغها أحد من أهل بيتك إلا كان بقاؤه قليلا ، وإنا لا ندري أينا يأتيه الموت أولا ، فإن رأيت أن لا تفسد علي بقية عمري فافعل . فرق له عبد الملك وتركه ، وقال للوليد وسليمان : إن يرد الله أن يعطيكما الخلافة لا يقدر أحد من العباد على رد ذلك . فقال عبد الملك حيث رده عبد العزيز : اللهم إنه قطعني فاقطعه .

فلما مات عبد العزيز قال أهل الشام : رد على أمير المؤمنين أمره . فلما أتى خبر موته إلى عبد الملك أمر الناس بالبيعة لابنيه الوليد وسليمان ، فبايعوا ، وكتب بالبيعة لهما إلى البلدان . وكان على المدينة هشام بن إسماعيل ، فدعا الناس إلى البيعة فأجابوا ، إلا سعيد بن المسيب فإنه أبى وقال : لا أبايع وعبد الملك حي ، فضربه هشام ضربا مبرحا ، [ ص: 529 ] وطاف به وهو في تبان شعر حتى بلغ رأس الثنية التي يقتلون ويصلبون عندها ، ثم ردوه وحبسوه . فقال سعيد : لو ظننت أنهم [ لا ] يصلبونني ما لبست ثياب مسوح ، ولكنني قلت : يصلبونني فيسترني . فبلغ عبد الملك الخبر فقال : قبح الله هشاما ، إنما كان ينبغي أن يدعوه إلى البيعة ، فإن أبى أن يبايع فيضرب عنقه أو يكف عنه . وكتب إليه يلومه ويقول له : إن سعيدا ليس عنده شقاق ولا خلاف .

وقد كان سعيد امتنع من بيعة ابن الزبير وقال : لا أبايع حتى يجتمع الناس . فضربه جابر بن الأسود عامل ابن الزبير ستين سوطا ، فبلغ ذلك ابن الزبير ، فكتب إلى جابر يلومه وقال : ما لنا ولسعيد ، دعه لا تعرض له .

وقيل : إن بيعة الوليد وسليمان كانت سنة أربع وثمانين ، والأول أصح ، قبل قدوم عبد العزيز على أخيه عبد الملك من مصر ، فلما فارقه وصاه عبد الملك فقال : ابسط بشرك ، وألن كنفك ، وآثر الرفق في الأمور ، فهو أبلغ بك ، وانظر حاجبك ، وليكن من خير أهلك ، فإنه وجهك ولسانك ، ولا يقفن أحد ببابك إلا أعلمك مكانه ، لتعلم أنت الذي تأذن له أو ترده ، فإذا خرجت إلى مجلسك فابدأ جلساءك بالكلام يأنسوا بك ، وتثبت في قلوبهم محبتك ، وإذا انتهى إليك مشكل فاستظهر عليه بالمشاورة ، فإنها تفتح مغاليق الأمور المهمة ، واعلم أن لك نصف الرأي ولأخيك نصفه ، ولن يهلك امرؤ عن مشورة ، وإذا سخطت على أحد فأخر عقوبته ، فإنك على العقوبة بعد التوقف عنها أقدر منك على ردها بعد إمضائها . والسلام .

التالي السابق


الخدمات العلمية