صفحة جزء
[ ص: 96 ] ذكر خلافة عمر بن عبد العزيز

في هذه السنة استخلف عمر بن عبد العزيز .

وسبب ذلك أن سليمان بن عبد الملك لما كان بدابق مرض ، على ما وصفنا ، فلما ثقل عهد في كتاب كتبه لبعض بنيه ، وهو غلام لم يبلغ ، فقال له رجاء بن حيوة : ما تصنع يا أمير المؤمنين ؟ إنه مما يحفظ الخليفة في قبره أن يستخلف على الناس الرجل الصالح . فقال سليمان : أنا أستخير الله وأنظر [ فيه ] . ولم أعزم [ عليه ] ، فمكث سليمان يوما أو يومين ، ثم خرقه ودعا رجاء ، فقال : ما ترى في ولدي داود ؟ فقال رجاء : هو غائب عنك بالقسطنطينية ، ولا تدري أحي [ هو ] أم لا . قال : فمن ترى ؟ قال رجاء : رأيك . قال : فكيف ترى في عمر بن عبد العزيز ؟ قال رجاء : فقلت : أعلمه والله خيرا فاضلا سليما . قال سليمان : هو على ذلك ، ولئن وليته ولم أول أحدا سواه لتكونن فتنة ولا يتركونه أبدا يلي عليهم ، إلا أن يجعل أحدهم بعده ، وكان عبد الملك قد عهد إلى الوليد وسليمان أن يجعلا أخاهما يزيد ولي عهد ، فأمر سليمان أن يجعل يزيد بن عبد الملك بعد عمر ، وكان يزيد غائبا في الموسم . قال رجاء : قلت رأيك . فكتب :

" بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز ، إني قد وليتك الخلافة بعدي ومن بعدك يزيد بن عبد الملك ، فاسمعوا له وأطيعوا واتقوا الله ، ولا تختلفوا فيطمع فيكم " . وختم الكتاب . فأرسل إلى كعب بن جابر العبسي صاحب شرطته ، فقال : ادع أهل بيتي . فجمعهم كعب . ثم قال سليمان لرجاء بعد اجتماعهم : اذهب بكتابي إليهم ، وأخبرهم بكتابي ، ومرهم فيبايعوا من وليت فيه .

ففعل رجاء ، فقالوا : ندخل ونسلم على أمير المؤمنين ؟ قال : نعم . فدخلوا ، فقال لهم سليمان : في هذا الكتاب ، وهو يشير إلى الكتاب الذي في يد رجاء بن حيوة ، عهدي ، فاسمعوا وأطيعوا لمن سميت فيه . فبايعوه رجلا رجلا ، وتفرقوا .

وقال رجاء : فأتاني عمر بن عبد العزيز ، فقال : أخشى أن يكون هذا أسند إلي شيئا من هذا الأمر ، فأنشدك الله وحرمتي ومودتي إلا أعلمتني إن كان ذلك ، حتى أستعفيه الآن قبل أن تأتي حال لا أقدر فيها على ذلك . قال رجاء : ما أنا بمخبرك [ حرفا ] . قال : فذهب عمر عني غضبان .

قال رجاء : ولقيني هشام بن عبد الملك فقال : إن لي بك حرمة ومودة قديمة ، وعندي شكر ، فأعلمني بهذا الأمر ، فإن كان إلى غيري تكلمت ، ولله علي أن لا أذكر ، [ ص: 97 ] شيئا من ذلك أبدا . قال رجاء : فأبيت أن أخبره حرفا ، فانصرف هشام وهو يضرب بإحدى يديه على الأخرى وهو يقول : فإلى من إذا نحيت عني ؟ أتخرج من بني عبد الملك ؟

قال رجاء : ودخلت على سليمان فإذا هو يموت ، فجعلت إذا أخذته سكرة من سكرات الموت حرفته إلى القبلة ، فيقول حين يفيق : لم يأن بعد . ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثا ، فلما كانت الثالثة قال : من الآن يا رجاء إن كنت تريد شيئا ، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، فحرفته ، فمات ، فلما غمضته وسجيته وأغلقت الباب ، أرسلت إلي زوجته فقالت : كيف أصبح ؟ فقلت : هو نائم قد تغطى . ونظر إليه الرسول متغطيا فرجع فأخبرها ، فظنت أنه نائم ، قال : فأجلست على الباب من أثق به ، وأوصيته أن لا يبرح ولا يترك أحدا يدخل على الخليفة .

قال : فخرجت فأرسلت إلى كعب بن جابر ، فجمع أهل بيت سليمان ، فاجتمعوا في مسجد دابق ، فقلت : بايعوا . فقالوا : قد بايعنا مرة . قلت : وأخرى ، هذا عهد أمير المؤمنين . فبايعوا الثانية ، فلما بايعوا بعد موته رأيت أني قد أحكمت الأمر ، فقلت : قوموا إلى صاحبكم ، فقد مات . قالوا : إنا لله وإنا إليه راجعون ! وقرأت الكتاب ، فلما انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز قال هشام : لا نبايعه والله أبدا . قلت : أضرب والله عنقك ، قم فبايع ، فقام يجر رجليه . قال رجاء : فأخذت بضبعي عمر بن عبد العزيز ، فأجلسته على المنبر وهو يسترجع لما وقع فيه ، وهشام يسترجع لما أخطأه . فبايعوه .

وغسل سليمان وكفن ، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز ودفن . فلما دفن أتي عمر بمراكب الخلافة ولكل دابة سائس ، فقال : ما هذا ؟ فقيل : مراكب الخلافة . قال : دابتي أوفق لي ، وركب دابته وصرفت تلك الدواب ، ثم أقبل سائرا ، فقيل له : أمنزل الخلافة ؟ فقال : فيه عيال أبي أيوب ، يعني سليمان ، وفي فسطاطي كفاية حتى يتحولوا . فأقام في منزله حتى فرغوه .

قال رجاء : فأعجبني ما صنع في الدواب ومنزل سليمان ، ثم دعا كاتبا فأملى عليه كتابا واحدا وأمره أن ينسخه ويسيره إلى كل بلد .

وبلغ عبد العزيز بن الوليد ، وكان غائبا ، عن موت سليمان ، ولم يعلم ببيعة عمر ، فعقد لواء ودعا إلى نفسه ، فبلغه بيعة عمر بعهد سليمان ، وأقبل حتى دخل عليه ، فقال له عمر : بلغني أنك بايعت من قبلك وأردت دخول دمشق ! فقال : قد كان ذاك ، وذلك أنه [ ص: 98 ] بلغني أن سليمان لم يكن عهد لأحد ، فخفت على الأموال أن تنهب . فقال عمر : لو بايعت وقمت بالأمر لم أنازعك فيه ولقعدت في بيتي . فقال عبد العزيز : ما أحب أنه ولي هذا الأمر غيرك ، وبايعه ، وكان يرجى لسليمان بتوليته عمر بن عبد العزيز وترك ولده .

فلما استقرت البيعة لعمر بن عبد العزيز قال لامرأته فاطمة بنت عبد الملك : إن أردت صحبتي فردي ما معك من مال وحلي وجوهر إلى بيت مال المسلمين ، فإنه لهم ، فإني لا أجتمع أنا وأنت وهو في بيت واحد . فردته جميعه .

فلما توفي عمر وولي أخوها يزيد رده عليها ، وقال : أنا أعلم أن عمر ظلمك . قالت : كلا والله . وامتنعت من أخذه ، وقالت : ما كنت أطيعه حيا وأعصيه ميتا . فأخذه يزيد وفرقه على أهله .

التالي السابق


الخدمات العلمية