صفحة جزء
ذكر عزل خالد بن عبد الله القسري وولاية يوسف بن عمر الثقفي

وفي هذه السنة عزل هشام بن عبد الملك خالدا عن أعماله جميعها ، وقد اختلفوا في ذلك وسببه .

قيل : إن فروخ أبا المثنى كان على ضياع هشام بنهر الرمان ، فثقل مكانه على خالد ، فقال خالد لحيان النبطي : اخرج إلى هشام وزد على فروخ ، ففعل حيان ذلك وتولاها ، فصار حيان أثقل على خالد من فروخ ، فجعل يؤذيه ، فيقول حيان : لا تؤذني وأنا صنيعتك ، فأبى إلا أذاه . فلما قدم عليه بثق البثوق على الضياع ، ثم خرج إلى هشام فقال له : إن خالدا بثق البثوق على ضياعك . فوجه هشام من ينظر إليها . فقال حيان لخادم من خدم هشام : إن تكلمت بكلمة أقولها لك حيث يسمع هشام فلك ألف دينار . قال : فعجلها [ وأقول ما شئت ] ، فأعطاه ألفا وقال له : تبكي صبيا من صبيان هشام ، فإذا بكى فقل له : ( اسكت والله لكأنك ابن خالد ) القسري الذي غلته ثلاثة عشر ألف ألف . ففعل الخادم ، فسمعها هشام ، فسأل حيان عن غلة خالد ، فقال : [ ص: 248 ] ثلاثة عشر ألف ألف ، فوقرت في نفس هشام .

وقيل : كانت غلته عشرين ألفا ، وإنه حفر بالعراق الأنهار ، منها نهر خالد ، وباجرى ، وتارمانا ، والمبارك ، والجامع ، وكورة سابور ، والصلح ، وكان كثيرا ما يقول : إني مظلوم ، ما تحت قدمي شيء إلا هو لي ، يعني أن عمر جعل لبجيلة ربع السواد .

وأشار عليه العريان بن الهيثم وبلال بن أبي بردة بعرض أملاكه على هشام ، ليأخذ منها ما أراد ، ويضمنان له الرضا ، فإنهما قد بلغهما تغير هشام عليه ، فلم يفعل ولم يجبهما إلى شيء . وقيل لهشام : إن خالدا قال لولده : ما أنت بدون مسلمة بن هشام !

ودخل رجل من آل عمرو بن سعيد بن العاص على خالد في مجلسه ، فأغلظ له في القول ، فكتب إلى هشام يشكو خالدا ، فكتب هشام إلى خالد يذمه ويلومه ويوبخه ويأمره أن يمشي راجلا إلى بابه ويترضاه ، فقد جعل عزله وولايته إليه ، وكان يذكر هشاما فيقول : ابن الحمقاء ، وكان خالد يخطب فيقول : زعمتم أني أغلي أسعاركم ، فعلى من يغليها لعنة الله !

وكان هشام كتب إليه ألا تبيعن من الغلات شيئا حتى تباع غلات أمير المؤمنين ، فبلغت كيلها دراهم . وكان يقول لابنه : كيف أنت إذا احتاج إليك أمير المؤمنين ؟

فبلغ هذا جميعه أمير المؤمنين هشاما فتنكر له . وبلغه أيضا أنه يستقل ولاية العراق ، فكتب إليه هشام : يابن أم خالد بلغني أنك تقول : ما ولاية العراق لي بشرف . يابن اللخناء ، كيف لا تكون إمرة العراق لك شرفا ، وأنت من بجيلة القليلة الذليلة ؟ أما والله إني لأظن أن أول من يأتيك صغير من قريش يشد يديك إلى عنقك .

ولم يزل يبلغه عنه ما يكره ، فعزم على عزله ، فكتم ذلك وكتب إلى يوسف بن عمر ، وهو باليمن ، يأمره أن يقدم في ثلاثين من أصحابه إلى العراق فقد ولاه ذلك ، فسار يوسف إلى الكوفة فعرس قريبا منها ، وقد ختن طارق خليفة خالد بالكوفة ولده ، فأهدى إليه ألف وصيف ووصيفة سوى الأموال والثياب ، فمر بيوسف بعض أهل العراق فسألوه : ما أنتم وأين تريدون ؟ قالوا : بعض المواضع . فأتوا طارقا فأخبروه خبرهم [ ص: 249 ] وأمروه بقتلهم وقالوا : إنهم خوارج . فسار يوسف إلى دور ثقيف ، فقيل لهم : ما أنتم ؟ فكتموا حالهم وأمر يوسف ، فجمع إليه من هناك من مضر ، فلما اجتمعوا دخل المسجد مع الفجر وأمر المؤذن وأقام الصلاة فصلى ، وأرسل إلى طارق وخالد فأخذهما وإن القدور لتغلي .

وقيل : لما أراد هشام أن يولي يوسف بن عمر العراق كتم ذلك ، فقدم جندب مولى يوسف بكتاب يوسف إلى هشام ، فقرأه ثم قال لسالم بن عنبسة وهو على الديوان : أن أجبه عن لسانك وأتني بالكتاب . وكتب هشام بخطه كتابا صغيرا إلى يوسف يأمره بالمسير إلى العراق ، فكتب سالم الكتاب وأتى به هشاما ، فجعل كتابه في وسطه وختمه ، ثم دعا رسول يوسف فأمر به فضرب ومزقت ثيابه ، ودفع الكتاب إليه فسار . فارتاب بشير بن أبي طلحة ، وكان خليفة سالم ، فقال : هذه حيلة ، وقد ولى يوسف العراق ، فكتب إلى عياض ، وهو نائب سالم بالعراق : إن أهلك قد بعثوا إليك بالثوب اليماني ، فإذا أتاك فالبسه ، واحمد الله تعالى ، ( وأعلم ذلك طارقا ) . فأعلم عياض طارق بن أبي زياد بالكتاب له .

ثم ندم بشير على كتابه ، فكتب إلى عياض : ( إن أهلك قد بدا لهم في إمساك ) الثوب . فأتى عياض ) بالكتاب الثاني إلى طارق ، فقال طارق : الخبر في الكتاب الأول ، ولكن بشيرا ندم وخاف أن يظهر الخبر .

وركب طارق من الكوفة إلى خالد وهو بواسط ، فرآه داود البريدي ، وكان على حجابة خالد وديوانه ، فأعلم خالدا ، فأذن له ، فلما رآه قال : ما أقدمك بغير إذن ؟ قال : أمر كنت أخطأت فيه ، كنت قد كتبت إلى الأمير أعزيه بأخيه أسد ، وإنما كان يجب أن آتيه ماشيا . فرق خالد ودمعت عيناه وقال : ارجع إلى عملك ، فأخبره الخبر لما غاب داود ، قال : ما الرأي ؟ قال : تركب إلى أمير المؤمنين فتعتذر إليه مما بلغه عنك . قال : لا أفعل ذلك بغير إذن . قال : فترسلني إليه حتى آتيك بإذنه . قال : ولا هذا . قال : فأذهب فأضمن لأمير المؤمنين جميع ما انكسر في هذه السنين وآتيك بعهده . قال : وكم مبلغه ؟ قال : مائة ألف ألف . قال : ومن أين آخذها ؟ والله ما أجد عشرة آلاف ألف درهم ! قال : أتحمل أنا وفلان وفلان . قال : إني إذا للئيم إن كنت أعطيتهم شيئا وأعود فيه . فقال [ ص: 250 ] طارق : إنما نفديك ونفدي أنفسنا بأموالنا وتستأنف الدنيا ، وتبقى النعمة عليك وعلينا خير من أن يجيء من يطالبنا بالأموال ( وهي عند أهل الكوفة ، فيتربصون فنقتل ويأكلون تلك الأموال ) . فأبى خالد . فودعه طارق وبكى وقال : هذا آخر ما نلتقي في الدنيا . ومضى إلى الكوفة وخرج خالد إلى الجمة .

وقدم رسول يوسف عليه اليمن فقال : أمير المؤمنين ساخط ، وقد ضربني ولم يكتب جواب كتابك ، وهذا كتاب سالم صاحب الديوان .

فقرأه ، فلما انتهى إلى آخره قرأ كتاب هشام بخطه وولاية العراق ، ويأمره أن يأخذ ابن النصرانية ، يعني خالدا ، وعماله ويعذبهم حتى يشتفي . فأخذ دليلا وسار من يومه واستخلف على اليمن ابنه الصلت ، فقدم الكوفة في جمادى الآخرة سنة عشرين ومائة فنزل النجف ، وأرسل مولاه كيسان وقال : انطلق فأتني بطارق ، فإن أقبل فاحمله على إكاف ، وإن لم يقبل فأت به سحبا .

فأتى كيسان الحيرة فأخذ معه عبد المسيح سيد أهلها إلى طارق ، فقال له : إن يوسف قد قدم على العراق وهو يستدعيك . فقال طارق لكيسان : إن أراد الأمير المال أعطيته ما سأل . وأقبلوا به إلى يوسف بن عمر فتوافوا بالحيرة ، فضربه ضربا مبرحا ، يقال خمسمائة سوط ، ودخل الكوفة ، وأرسل عطاء بن مقدم إلى خالد بالجمة ، فأتى الرسول حاجبه وقال : استأذن [ لي ] على أبي الهيثم ، فدخل على خالد متغير اللون ، فقال خالد : ما لك ؟ قال : خير . قال : ما عندك خير ! قال : عطاء [ قال ] : استأذن لي على أبي الهيثم . فقال : ايذن له ، فدخل عليه ، فقال : ويل أمها سخطة ! ثم أخذه فحبسه ، وصالحه عنه أبان بن الوليد وأصحابه على تسعة آلاف ألف ، فقيل ليوسف : لو لم تفعل لأخذت منه مائة ألف ألف ، فندم وقال : قد رهنت لساني معه ولا آمن ولا أرجع .

وأخبر أصحاب خالد خالدا فقال : قد أخطأتم ولا آمن أن يأخذها ثم يعود ، ارجعوا ، فرجعوا فأخبروه أن خالدا لم يرض ، فقال : قد رجعتم ؟ قالوا : نعم . قال : والله لا أرضى بمثلها ولا مثليها ، فأخذ أكثر من ذلك ، وقيل : أخذ مائة ألف . فأرسل يوسف [ ص: 251 ] إلى بلال بن أبي بردة ، فقبضه ، وكان قد اتخذ بلال بالكوفة دارا لم ينزلها ، فأحضره يوسف مقيدا فأنزله الدار ، ثم جعلت سجنا . وكان خالد يصل الهاشميين ويبرهم ، فأتاه محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان ليستحميه فلم ير منه ما يحب ، فقال : أما الصلة فللهاشميين ، وليس لنا منه إلا أنه يلعن عليا ، فبلغت خالدا فقال : إن أحب نلنا عثمان بشيء .

وكان خالد مع هذا يبالغ في سب علي ، فقيل : كان يفعل ذلك نفيا للتهمة ، وتقربا إلى القوم .

وكانت ولاية خالد العراق في شوال سنة خمس ومائة ، وعزل في جمادى الأولى سنة عشرين ومائة ، ولما ولي يوسف العراق كان الإسلام ذليلا والحكم فيه إلى أهل الذمة ، فقال يحيى بن نوفل فيه :

أتانا وأهل الشرك أهل زكاتنا وحكامنا فيما نسر ونجهر     فلما أتانا يوسف الخير أشرقت
له الأرض حتى كل واد منور     وحتى رأينا العدل في الناس ظاهرا
وما كان من قبل العقيلي يظهر

في أبيات . ثم قال بعد ذلك :

أرانا والخليفة إذ رمانا     مع الإخلاص بالرجل الجديد
كأهل النار حين دعوا أغيثوا     جميعا بالحميم وبالصديد



وكان في يوسف أشياء متباينة متناقضة ، كان طويل الصلاة ، ملازما للمسجد ، ضابطا لحشمه وأهله عن الناس ، لين الكلام ، متواضعا ، حسن الملكة ، كثير التضرع والدعاء ، فكان يصلي الصبح ولا يكلم أحدا حتى يصلي الضحى ، يقرأ القرآن ويتضرع ، وكان بصيرا بالشعر والأدب ، وكان شديد العقوبة مسرفا في ضرب الأبشار ، فكان يأخذ الثوب الجديد فيمر ظفره عليه ، فإن تعلق به طاقه ضرب صاحبه وربما قطع يده . وكان أحمق ، أتي يوما بثوب فقال لكاتبه : ما تقول في هذا الثوب ؟ فقال : كان ينبغي أن تكون بيوته أصغر مما هي . فقال للحائك : صدق يابن اللخناء ! فقال الحائك : نحن أعلم بهذا . فقال لكاتبه : صدق يابن اللخناء . فقال الكاتب : هذا يعمل في السنة ثوبا أو ثوبين ، وأنا يمر على يدي في كل سنة مائة ثوب مثل هذا . فقال للحائك : صدق يابن اللخناء ! فلم [ ص: 252 ] يزل يكذب هذا مرة وهذا مرة حتى عد أبيات الثوب فوجدها تنقص بيتا من أحد جانبي الثوب ، فضرب الحائك مائة سوط .

وقيل : إن يوسف أراد السفر فدعا جواريه فقال لإحداهن : تخرجين معي ؟ قالت : نعم . قال : يا خبيثة كل هذا من حب النكاح ، يا خادم اضرب رأسها . وقال لأخرى : ما تقولين ؟ فقالت : أقيم على ولدي . فقال : يا خبيثة أكل هذا زهادة في ؟ اضرب رأسها . وقال لثالثة : ما تقولين ؟ قالت : ما أدري ما أقول ، إن قلت ما قالت إحداهما لم آمن عقوبتك . فقال : يا لخناء أوتناقضين وتحتجين ؟ اضرب رأسها . فضرب الجميع .

وكان قصيرا عظيم اللحية ، وكان يحضر الثوب الطويل ليفصله ليلبسه ، فإن قال الخياط إنه يفصل منه ضربه ، فإن قال له الخياط : لا يكفينا إلا بعد التصرف في التفصيل ، سره ، فكانوا يفصلون له ثيابا طوالا ويأخذون ما ينبغي من الثوب يوهمونه أن الثوب لم يكفه فيرضى بذلك . وله في هذا الباب أشياء نوادر ، منها أنه قال يوما لكاتب له : ما حبسك ؟ قال : اشتكيت ضرسي ، فدعا بحجام يقلعه ومعه ضرس آخر .

التالي السابق


الخدمات العلمية