صفحة جزء
ذكر قتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك

في هذه السنة قتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك الذي يقال له الناقص في جمادى الآخرة .

وكان سبب قتله ما تقدم ذكره من خلاعته ومجانته ، فلما ولي الخلافة لم يزد من الذي كان فيه من اللهو واللذة والركوب للصيد وشرب النبيذ ومنادمة الفساق إلا تماديا ، فثقل ذلك على رعيته وجنده وكرهوا أمره ، وكان أعظمه ما جنى على نفسه إفساده بني عميه هشام والوليد ، فإنه أخذ سليمان بن هشام ، فضربه مائة سوط ، وحلق رأسه ولحيته ، وغربه إلى عمان من أرض الشام فحبسه بها ، فلم يزل محبوسا حتى قتل الوليد ، فأخذ جارية كانت لآل الوليد ، فكلمه عثمان بن الوليد في ردها ، فقال : لا أردها . فقال : إذن تكثر الصواهل حول عسكرك ! وحبس الأفقم يزيد بن هشام ، وفرق بين روح بن الوليد وبين امرأته وحبس عدة من ولد الوليد ، فرماه بنو هاشم وبنو الوليد بالكفر وغشيان أمهات أولاد أبيه وقالوا : قد اتخذ مائة جامعة لبني أمية .

وكان أشدهم فيه يزيد بن الوليد ، وكان الناس إلى قوله أميل لأنه كان يظهر النسك ويتواضع ، وكان قد نهاه سعيد بن بيهس بن صهيب عن البيعة لابنيه الحكم وعثمان لصغرهما ، فحبسه حتى مات في الحبس .

وأراد خالد بن عبد الله القسري على البيعة لابنيه فأبى ، فغضب عليه ، فقيل له : لا تخاف أمير المؤمنين . فقال : كيف أبايع من لا أصلي خلفه ولا أقبل شهادته ؟ قالوا : فتقبل شهادة الوليد مع فسقه ! قال : أمير المؤمنين غائب عني وإنما هي أخبار الناس . ففسدت اليمانية عليه وفسدت عليه قضاعة ، وهم واليمن أكثر جند أهل الشام ، فأتى حريث وشبيب بن أبي مالك الغساني ومنصور بن جمهور الكلبي وابن عمه حبال بن عمرو ويعقوب بن عبد الرحمن وحميد بن منصور اللخمي والأصبغ بن ذؤالة [ ص: 300 ] والطفيل بن حارثة والسري زياد إلى خالد بن عبد الله القسري فدفعوه إلى أمرهم ، فلم يجبهم .

وأراد الوليد الحج فخاف خالد أن يقتلوه في الطريق فنهاه عن الحج ، فقال : ولم ؟ فأخبره فحبسه وأمر أن يطالب بأموال العراق ، ثم استقدم يوسف بن عمر من العراق وطلب منه أن يحضر معه الأموال ، وأراد عزله وتولية عبد الملك بن محمد بن الحجاج بن يوسف . فقدم يوسف بأموال لم يحمل من العراق مثلها ، فلقيه حسان النبطي فأخبره أن الوليد يريد أن يولي عبد الملك بن محمد ، وأشار عليه أن يحمل الرشى إلى وزرائه ، ففرق فيهم خمسمائة ألف ، وقال له حسان : اكتب على لسان خليفتك بالعراق كتابا : إني كتبت إليك ولا أملك إلا القصر ، وادخل على الوليد والكتاب معك مختوم واشتر منه خالدا ، ففعل ، فأمره الوليد بالعود إلى العراق ، واشترى منه خالدا القسري بخمسين ألف ألف فدفعه إليه ، فأخذه معه في محمل بغير وطاء إلى العراق . فقال بعض أهل اليمن شعرا على لسان الوليد يحرض عليه اليمانية وقيل : إنها للوليد يوبخ اليمن على ترك نصر خالد :

ألم تهتج فتذكر الوصالا وحبلا كان متصلا فزالا     بلى فالدمع منك إلى انسجام
كماء المزن ينسجل انسجالا     فدع عنك ادكارك آل سعدى
فنحن الأكثرون حصى ومالا     ونحن المالكون الناس قسرا
نسومهم المذلة والنكالا     وطئنا الأشعرين بعز قيس
فيا لك وطأة لن تستقالا     وهذا خالد فينا أسير
ألا منعوه إن كانوا رجالا     عظيمهم وسيدهم قديما
جعلنا المخزيات له ظلالا     فلو كانت قبائل ذات عز
لما ذهبت صنائعه ضلالا

[ ص: 301 ]     ولا تركوه مسلوبا أسيرا
يعالج من سلاسلنا الثقالا     وكندة والسكون فما استقالوا
ولا برحت خيولهم الرحالا     بها سمنا البرية كل خسف
وهدمنا السهولة والجبالا     ولكن الوقائع ضعضعتهم
وجذتهم وردتهم شلالا     فما زالوا لنا أبدا عبيدا
نسومهم المذلة والسفالا     فأصبحت الغداة علي تاج
لملك الناس ما يبغي انتقالا



فعظم ذلك عليهم وسعوا في قتله وازدادوا حنقا ، وقال حمزة بن بيض في الوليد :

وصلت سماء الضر بالضر بعدما     زعمت سماء الضر عنا ستقلع
فليت هشاما كان حيا يسومنا     وكنا كما كنا نرجي ونطمع



وقال أيضا :

يا وليد الخنا تركت الطريقا     واضحا وارتكبت فجا عميقا
وتماديت واعتديت وأسرف     ت وأغريت وانبعثت فسوقا
أبدا هات ثم هات وهاتي     ثم هاتي حتى تخر صعيقا
أنت سكران ما تفيق فما تر     تق فتقا وقد فتقت فتوقا



فأتت اليمانية يزيد بن الوليد بن عبد الملك فأرادوه على البيعة ، فشاور عمرو بن يزيد الحكمي ، فقال له : لا يبايعك الناس على هذا ، وشاور أخاك العباس فإن بايعك [ ص: 302 ] لم يخالفك أحد ، وإن أبى كان الناس له أطوع ، فإن أبيت إلا المضي على رأيك فأظهر أن أخاك العباس قد بايعك . وكان الشام وبيا ، فخرجوا إلى البوادي ، وكان العباس بالقسطل ويزيد بالبادية أيضا بينهما أميال يسيرة ، فأتى يزيد أخاه العباس فاستشاره ، فنهاه عن ذلك ، فرجع وبايع الناس سرا وبث دعاته ، فدعوا الناس ، ثم عاود أخاه العباس فاستشاره ودعاه إلى نفسه ، فزبره وقال : إن عدت لمثل هذا لأشدنك وثاقا وأحملنك إلى أمير المؤمنين . فخرج من عنده . فقال العباس : إني لأظنه أشأم مولود في بني مروان .

وبلغ الخبر مروان بن محمد بإرمينية ، فكتب إلى سعيد بن عبد الملك بن مروان يأمره أن ينهى الناس ، ويكفهم ويحذرهم الفتنة ، ويخوفهم خروج الأمر عنهم ، فأعظم سعيد ذلك وبعث بالكتاب إلى العباس بن الوليد ، فاستدعى العباس يزيد وتهدده ، فكتمه يزيد أمره ، فصدقه ، وقال العباس لأخيه بشر بن الوليد : إني أظن أن الله قد أذن في هلاككم يا بني مروان ، ثم تمثل :

إني أعيذكم بالله من فتن     مثل الجبال تسامى ثم تندفع
إن البرية قد ملت سياستكم     فاستمسكوا بعمود الدين وارتدعوا
لا تلحمن ذئاب الناس أنفسكم     إن الذئاب إذا ما ألحمت رتعوا
لا تبقرن بأيديكم بطونكم     فثم لا حسرة تغني ولا جزع


فلما اجتمع ليزيد أمره وهو متبد أقبل إلى دمشق ، وبينه وبين دمشق أربع ليال ، متنكرا في سبعة نفر على حمير ، فنزلوا بجرود على مرحلة من دمشق ، ثم سار فدخل دمشق وقد بايع له أكثر أهلها سرا ، وبايع أهل المزة ، وكان على دمشق عبد الملك بن محمد بن الحجاج ، فخاف الوباء فخرج منها فنزل قطنا واستخلف ابنه على دمشق ، وعلى شرطته أبو العاج كثير بن عبد الله السلمي ، فأجمع يزيد على الظهور ، فقيل للعامل : إن يزيد خارج ، فلم يصدق .

وراسل يزيد أصحابه بعد المغرب ليلة الجمعة ، فكمنوا عند باب الفراديس حتى أذن العشاء فدخلوا فصلوا ، وللمسجد حرس قد وكلوا بإخراج الناس منه بالليل ، فلما صلى الناس أخرجهم الحرس ، وتباطأ أصحاب يزيد حتى لم يبق في المسجد غير [ ص: 303 ] الحرس وأصحاب يزيد ، فأخذوا الحرس ، ومضى يزيد بن عنبسة إلى يزيد بن الوليد فأعلمه وأخذ بيده فقال : قم يا أمير المؤمنين وأبشر بنصر الله وعونه . فقام وأقبل في اثني عشر رجلا ، فلما كان عند سوق الحمر لقوا أربعين رجلا من أصحابهم ، ولقيهم زهاء مائتي رجل ، فمضوا إلى المسجد فدخلوا وأخذوا باب المقصورة فضربوه فقالوا : رسل الوليد ، ففتح لهم الباب خادم ، فأخذوه ودخلوا فأخذوا أبا العاج وهو سكران ، وأخذوا خزان بيت المال ، وأرسل إلى كل من كان يحذره فأخذ ، وقبض على محمد بن عبيدة ، وهو على بعلبك ، وأرسل بني عذرة إلى محمد بن عبد الملك بن محمد بن الحجاج فأخذوه .

وكان بالمسجد سلاح كثير فأخذوه ، فلما أصبحوا جاء أهل المزة ، وتتابع الناس وجاءت السكاسك ، وأقبل أهل داريا ويعقوب بن محمد بن هانئ العبسي ، وأقبل عيسى بن شبيب التغلبي في أهل دومة وحرستا ، وأقبل حميد بن حبيب النخعي في أهل دير مران والأرزة وسطرا ، وأقبل أهل جرش وأهل الحديثة ودير زكا ، وأقبل ربعي بن هاشم الحارثي في الجماعة من بني عذرة وسلامان ، وأقبلت جهينة ومن والاهم . ثم وجه يزيد بن الوليد بن عبد الملك عبد الرحمن بن مصاد في مائتي فارس ليأخذوا عبد الملك بن محمد بن الحجاج بن يوسف من قصره ، فأخذوه بأمان ، وأصاب عبد الرحمن خرجين في كل واحد منهما ثلاثون ألف دينار ، فقيل له : خذ أحد هذين الخرجين . فقال : لا تتحدث العرب عني أني أول من خان في هذا الأمر .

ثم جهز يزيد جيشا وسيرهم إلى الوليد بن يزيد بن عبد الملك وجعل عليهم عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك .

وكان يزيد لما ظهر بدمشق سار مولى للوليد إليه فأعلمه الخبر وهو بالأغدف من عمان ، فضربه الوليد وحبسه وسير أبا محمد عبد الله بن يزيد بن معاوية إلى دمشق ، فسار بعض الطريق فأقام ، فأرسل إليه يزيد بن الوليد عبد الرحمن بن مصاد ، فسأله أبو [ ص: 304 ] محمد ثم بايع ليزيد بن الوليد .

ولما أتى الخبر إلى الوليد قال له يزيد بن خالد بن يزيد بن معاوية : سر حتى تنزل حمص فإنها حصينة ، ووجه الخيول إلى يزيد فيقتل أو يؤسر . فقال عبد الله بن عنبسة بن سعيد بن العاص : ما ينبغي للخليفة أن يدع عسكره ونساءه قبل أن يقاتل ، والله يؤيد أمير المؤمنين وينصره . فقال يزيد بن خالد : وما نخاف على حرمه ، وإنما أتاه عبد العزيز وهو ابن عمهن .

فأخذ بقول ابن عنبسة وسار حتى أتى البخراء قصر النعمان بن بشير ، وسار معه من ولد الضحاك بن قيس أربعون رجلا فقالوا له : ليس لنا سلاح ، فلو أمرت لنا بسلاح . فما أعطاهم شيئا . ونازله عبد العزيز ، وكتب العباس بن الوليد بن عبد الملك إلى الوليد : إني آتيك . فقال الوليد : أخرجوا سريرا ، فأخرجوه ، فجلس عليه وانتظر العباس . فقاتلهم عبد العزيز ومعه منصور بن جمهور ، فبعث إليهم عبد العزيز زياد بن حصين الكلبي يدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه ، فقتله أصحاب الوليد ، واقتتلوا قتالا شديدا ، وكان الوليد قد أخرج لواء مروان بن الحكم الذي كان عقده بالجابية .

وبلغ عبد العزيز مسير العباس إلى الوليد ، فأرسل منصور بن جمهور إلى طريقه فأخذه قهرا وأتي به عبد العزيز فقال له : بايع لأخيك يزيد . فبايع ووقف ، ونصبوا راية وقالوا : هذه راية العباس قد بايع لأمير المؤمنين يزيد . فقال العباس : إنا لله ، خدعة من خدع الشيطان ، هلك بنو مروان . فتفرق الناس عن الوليد وأتوا العباس وعبد العزيز . وأرسل الوليد إلى عبد العزيز يبذل له خمسين ألف دينار وولاية حمص ما بقي ويؤمنه من كل حدث على أن ينصرف عن قتاله . فأبى ولم يجبه . فظاهر الوليد بين درعين ، وأتوه بفرسيه السندي الزائد فقاتلهم قتالا شديدا ، فناداهم رجل : اقتلوا عدو الله قتلة قوم لوط ! ارجموه بالحجارة ! فلما سمع ذلك دخل القصر وأغلق عليه الباب وقال :

دعوا لي سليمى والطلاء وقينة     وكأسا ألا حسبي بذلك مالا
إذا ما صفا عيشي برملة عالج     وعانقت سلمى ما أريد بدالا


[ ص: 305 ] خذوا ملككم لا ثبت الله ملككم     ثباتا يساوي ما حييت عقالا
وخلوا عناني قبل عير وما جرى     ولا تحسدوني أن أموت هزالا


فلما دخل القصر وأغلق الباب أحاط به عبد العزيز ، فدنا الوليد من الباب وقال : أما فيكم رجل شريف له حسب وحياء أكلمه ؟ قال يزيد بن عنبسة السكسكي : كلمني . قال : يا أخا السكاسك ، ألم أزد في أعطياتكم ؟ ألم أرفع المؤن عنكم ؟ ألم أعط فقراءكم ؟ ألم أخدم زمناكم ؟ فقال : إنا ما ننقم عليك في أنفسنا ، إنما ننقم عليك في انتهاك ما حرم الله وشرب الخمر ونكاح أمهات أولاد أبيك واستخفافك بأمر الله ! قال : حسبك يا أخا السكاسك ، فلعمري لقد أكثرت وأغرقت ، وإن فيما أحل الله سعة عما ذكرت . ورجع إلى الدار وجلس وأخذ مصحفا فنشره يقرأ فيه وقال : يوم كيوم عثمان . فصعدوا على الحائط ، وكان أول من علاه يزيد بن عنبسة ، فنزل إليه فأخذ بيده وهو يريد أن يحبسه ويؤامر فيه ، فنزل من الحائط عشرة ، منهم : منصور بن جمهور ، وعبد السلام اللخمي ، فضربه عبد السلام على رأسه وضربه السري بن زياد بن أبي كبشة في وجهه واحتزوا رأسه وسيروه إلى يزيد .

فأتاه الرأس وهو يتغدى ، فسجد ، وحكى له يزيد بن عنبسة ما قاله للوليد ، قال آخر كلامه : الله لا يرتق فتقكم ولا يلم شعثكم ولا تجتمع كلمتكم ، فأمر يزيد بنصب رأسه . فقال له يزيد بن فروة مولى بني مرة : إنما تنصب رءوس الخوارج ، وهذا ابن عمك وخليفة ، ولا آمن إن نصبته أن ترق له قلوب الناس ، ويغضب له أهل بيته . فلم يسمع منه ونصبه على رمح فطاف به بدمشق ، ثم أمر به أن يدفع إلى أخيه سليمان بن يزيد ، فلما نظر إليه سليمان قال : بعدا له ! أشهد أنه كان شروبا للخمر ماجنا فاسقا ، ولقد أرادني في نفسي الفاسق . وكان [ ص: 306 ] سليمان ممن سعى في أمره .

وكان مع الوليد مالك بن أبي السمح المغني ، وعمرو الوادي المغني أيضا ، فلما تفرق عن الوليد أصحابه وحصر قال مالك لعمرو : اذهب بنا . فقال عمرو : ليس هذا من الوفاء ، نحن لا يعرض لنا لأنا لسنا ممن يقاتل . فقال مالك : والله لئن ظفروا بك وبي لا يقتل أحد قبلي وقبلك ، فيوضع رأسه بين رأسينا ويقال للناس : انظروا من كان معه في هذه الحال ، فلا يعيبونه بشيء أشد من هذا . فهربا .

وكان قتله لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ، وكانت مدة خلافته سنة وثلاثة أشهر ، وقيل سنة وشهرين واثنين وعشرين يوما ، وكان عمره اثنتين وأربعين سنة ، وقيل : قتل وهو ابن ثمان وثلاثين سنة ، وقيل إحدى وأربعين سنة ، وقيل ست وأربعين سنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية