صفحة جزء
ذكر الاختلاف بين أهل خراسان

وفي هذه السنة وقع الاختلاف بخراسان بين النزارية واليمانية وأظهر الكرماني الخلاف لنصر بن سيار .

وكان السبب في ذلك أن نصرا رأى الفتنة قد ثارت فرفع حاصل بيت المال ، وأعطى الناس بعض أعطياتهم ورقا وذهبا من الآنية التي كان اتخذها للوليد ، فطلب [ ص: 317 ] الناس منه العطاء وهو يخطب ، فقال نصر : إياي والمعصية ! عليكم بالطاعة والجماعة ! فوثب أهل السوق إلى أسواقهم ، فغضب نصر وقال : ما لكم عندي عطاء . ثم قال : كأني بكم وقد نبع من تحت أرجلكم شر لا يطاق ، وكأني بكم مطرحين في الأسواق كالجزر المنحورة ، إنه لم تطل ولاية رجل إلا ملوها ، وأنتم يا أهل خراسان مسلحة في نحور العدو ، فإياكم أن يختلف فيكم سيفان ، إنكم ترشون أمرا تريدون به الفتنة ، ولا أبقى الله عليكم ! لقد نشرتكم وطويتكم ، [ وطويتكم ونشرتكم ] فما عندي منكم عشرة ! وإني وإياكم كما قيل :

استمسكوا أصحابنا نحدو بكم فقد عرفنا خيركم وشركم



فاتقوا الله ! فوالله لئن اختلف فيكم سيفان ، ليتمنين أحدكم أنه ينخلع من ماله وولده ! يا أهل خراسان إنكم قد غمطتم الجماعة ، وركنتم إلى الفرقة ! ثم تمثل بقول النابغة الذبياني : فإن يغلب شقاؤكم عليكم فإني في صلاحكم سعيت

وقدم على نصر عهده على خراسان من عبد الله بن عمر بن عبد العزيز ، فقال الكرماني لأصحابه : الناس في فتنة فانظروا لأموركم رجلا .

وإنما سمي الكرماني لأنه ولد بكرمان ، واسمه جديع بن علي الأزدي المعني ، فقالوا له : أنت لنا .

وقالت المضرية لنصر : إن الكرماني يفسد عليك الأمور فأرسل إليه ( فاقتله أو احبسه . قال : لا ولكن لي أولاد ذكور وإناث فأزوج بني من بناته ) وبناتي من بنيه . قالوا : لا . قال : فابعث إليه بمائة ألف درهم وهو بخيل ، ولا يعطي أصحابه شيئا منها فيتفرقون عنه . قالوا : لا ، هذه قوة له ، ولم يزالوا به حتى قالوا له : إن الكرماني لو لم يقدر على السلطان والملك إلا بالنصرانية واليهودية لتنصر وتهود .

[ ص: 318 ] وكان نصر والكرماني متصافيين ، وكان الكرماني قد أحسن إلى نصر في ولاية أسد بن عبد الله ، فلما ولي نصر عزل الكرماني عن الرياسة وولاها غيره ، فتباعد ما بينهما .

فلما أكثروا على نصر في أمر الكرماني عزم على حبسه ، فأرسل صاحب حرسه ليأتيه به ، فأرادت الأزد أن تخلصه من يده ، فمنعهم من ذلك وسار مع صاحب الحرس إلى نصر وهو يضحك ، فلما دخل عليه قال له نصر : يا كرماني ألم يأتني كتاب يوسف بن عمر بقتلك فراجعته ، وقلت : شيخ خراسان وفارسها فحقنت دمك ؟ قال : بلى . قال : ألم أغرم عنك ما كان لزمك من الغرم ، وقسمته في أعطيات الناس ؟ قال : بلى . قال : ألم أرئس ابنك عليا على كره من قومك ؟ قال : بلى . قال : فبدلت ذلك إجماعا على الفتنة ! قال الكرماني : لم يقل الأمير شيئا إلا وقد كان أكثر منه ، وأنا لذلك شاكر ، وقد كان مني أيام أسد ما قد علمت فليتأن الأمير فلست أحب الفتنة . فقال سالم بن أحوز : اضرب عنقه أيها الأمير ! فقال عصمة بن عبد الله الأسدي للكرماني : إنك تريد الفتنة وما لا تناله . فقال المقدام وقدامة ابنا عبد الرحمن بن نعيم العامري : لجلساء فرعون خير منكم إذ ( قالوا أرجه وأخاه ) ، والله لا يقتل الكرماني بقولكما ! فأمر بضربه وحبس في القهندز لثلاث بقين من شهر رمضان سنة ست وعشرين ومائة .

فتكلمت الأزد ، فقال نصر : إني حلفت أن أحبسه ولا يناله مني سوء ، فإن خشيتم عليه فاختاروا رجلا يكون معه . فاختاروا رجلا يكون معه . فاختاروا يزيد النحوي ، فكان معه .

فجاء رجل من أهل نسف فقال لآل الكرماني : ما تجعلون لي إن أخرجته ؟ قالوا : كل ما سألت . فأتى مجرى الماء في القهندز فوسعه وقال لولد الكرماني : اكتبوا إلى أبيكم يستعد الليلة للخروج . فكتبوا إليه ، فأدخلوا الكتاب في الطعام ، فتعشى الكرماني ويزيد النحوي وخضر بن حكيم وخرجا من عنده ، ودخل الكرماني السرب فانطوت على بطنه حية فلم تضره وخرج من السرب ، وركب فرسه البشير والقيد في رجله فأتوا به عبد الملك بن حرملة ، فأطلق عنه .

وقيل : بل خلص الكرماني مولى له رأى خرقا في القهندز فوسعه وأخرجه ، فلم يصل الصبح حتى اجتمع معه زهاء ألف ، ولم يرتفع النهار حتى بلغوا ثلاثة آلاف ، [ ص: 319 ] وكانت الأزد قد بايعوا عبد الملك بن حرملة على كتاب الله وسنة رسوله ، فلما خرج الكرماني قدمه عبد الملك .

فلما هرب الكرماني عسكر نصر بباب مرو الروذ وخطب الناس فنال من الكرماني ، فقال : ولد بكرمان فكان كرمانيا ، ثم سقط إلى هراة فصار هرويا ، والساقط بين الفراشين لا أصل ثابت ولا فرع نابت ، ثم ذكر الأزد فقال : إن يستوسقوا فهم أذل قوم ، وإن يأبوا فهم كما قال الأخطل :

ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت     فدل عليها صوتها حية البحر



ثم ندم على ما فرط منه فقال : اذكروا الله فإنه خير لا شر فيه .

ثم اجتمع إلى نصر بشر كثير ، فوجه سالم بن أحوز في المجففة إلى الكرماني ، فسفر الناس بين نصر والكرماني وسألوا نصرا أن يؤمنه ولا يحبسه ، وجاء الكرماني فوضع يده في يد نصر ، فأمره بلزوم بيته .

ثم بلغ الكرماني عن نصر شيء فخرج إلى قرية له ، فخرج نصر فعسكر بباب مرو ، فكلموه فيه فآمنه ، وكان رأي نصر إخراجه من خراسان ، فقال له سالم بن أحوز : إن أخرجته نوهت باسمه ، وقال الناس : إنما أخرجه لأنه هابه . فقال نصر : إن الذي أتخوفه منه إذا خرج أيسر مما أتخوفه منه وهو مقيم ، والرجل إذا نفي عن بلده صغر أمره . فأبوا عليه ، فآمنه وأعطى أصحابه عشرة عشرة ، وأتى الكرماني نصرا فآمنه .

فلما عزل ابن جمهور عن العراق وولي عبد الله بن عمر بن عبد العزيز في شوال سنة ست وعشرين خطب نصر وذكر ابن جمهور وقال : قد علمت أنه لم يكن من عمال العراق وقد عزله الله واستعمل الطيب بن الطيب . فغضب الكرماني لابن جمهور وعاد في جمع الرجال واتخاذ السلاح ، فكان يحضر الجمعة في ألف وخمسمائة وأكثر وأقل فيصلي خارج المقصورة ، ثم يدخل فيسلم على نصر ولا يجلس . ثم ترك إتيان نصر وأظهر الخلاف ، فأرسل إليه نصر مع سالم بن أحوز يقول له : إني والله ما أردت بحبسك [ ص: 320 ] سوءا ، ولكن خفت فسادا من الناس فأتني . فقال : لولا أنك في منزلي لقتلتك ، ارجع إلى ابن الأقطع وأبلغه ما شئت من خير أو شر . فرجع إلى نصر فأخبره ، فلم يزل يرسل إليه مرة بعد أخرى ، فكان آخر ما قال له الكرماني : إني لا آمن أن يحملك قوم على غير ما تريد فتركب منا ما لا بقية بعده ، فإن شئت خرجت عنك لا من هيبة لك ، ولكن أكره أن أشأم أهل هذه البلدة وأسفك الدماء فيها . فتهيأ للخروج إلى جرجان .

( المعني : بفتح الميم ، وسكون العين المهملة ، وبعدها نون : قبيلة من الأزد ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية