صفحة جزء
ذكر قتل أبي مسلم الخراساني

وفي هذه السنة قتل أبو مسلم الخراساني ، قتله المنصور .

وكان سبب ذلك أن أبا مسلم كتب إلى السفاح يستأذنه في الحج ، على ما تقدم ، وكتب السفاح إلى المنصور وهو على الجزيرة وإرمينية وأذربيجان : إن أبا مسلم كتب إلي يستأذنني في الحج ، وقد أذنت له ، وهو يريد أن يسألني أن أوليه الموسم ، فاكتب إلي تستأذنني في الحج فآذن لك ، فإنك إن كنت بمكة لم يطمع أن يتقدمك .

فكتب المنصور إلى أخيه السفاح يستأذنه في الحج ، فأذن له ، فقدم الأنبار ، فقال أبو مسلم : أما وجد أبو جعفر عاما يحج فيه غير هذا ؟ وحقدها عليه ، وحجا معا ، فكان أبو مسلم يكسو الأعراب ، ويصلح الآبار والطريق ، وكان الذكر له ، وكان الأعراب يقولون : هذا المكذوب عليه .

فلما قدم مكة ورأى أهل اليمن قال : أي جند هؤلاء لو لقيهم رجل ظريف اللسان غزير الدمعة ! .

فلما صدر الناس عن الموسم تقدم أبو مسلم في الطريق على أبي جعفر ، فأتاه خبر وفاة السفاح ، فكتب إلى أبي جعفر يعزيه عن أخيه ، ولم يهنئه بالخلافة ، ولم يقم حتى يلحقه ، ولم يرجع .

فغضب أبو جعفر ، وكتب إليه كتابا غليظا ، فلما أتاه الكتاب كتب إليه يهنئه بالخلافة . وتقدم أبو مسلم ، فأتى الأنبار ، فدعا عيسى بن موسى إلى أن يبايع له ، فأتى عيسى ، وقدم أبو جعفر ، وخلع عبد الله بن علي .

فسير المنصور أبا مسلم إلى قتاله ، كما تقدم مكانا ، مع الحسن بن قحطبة ، فأرسل الحسن إلى أبي أيوب وزير المنصور : [ ص: 57 ] إني قد رأيت بأبي مسلم أنه يأتيه كتاب أمير المؤمنين فيقرؤه ، ثم يلقي الكتاب من يده إلى مالك بن الهيثم ، فيقرؤه ويضحكان استهزاء ، فلما ألقيت الرسالة إلى أبي أيوب ضحك وقال : نحن لأبي مسلم أشد تهمة منا لعبد الله بن علي ، إلا أنا نرجو واحدة ، نعلم أن أهل خراسان لا يحبون عبد الله ، وقد قتل منهم من قتل . وكان قتل منهم سبعة عشر ألفا .

فلما انهزم عبد الله ، وجمع أبو مسلم ما غنم من عسكره بعث أبو جعفر أبا الخصيب إلى أبي مسلم ليكتب له ما أصاب من الأموال ، فأراد أبو جعفر قتله ، فتكلم فيه فخلى سبيله ، وقال : أنا أمين على الدماء ، خائن في الأموال . وشتم المنصور .

فرجع أبو الخصيب إلى المنصور فأخبره ، فخاف أن يمضي أبو مسلم إلى خراسان ، فكتب إليه : إني قد وليتك مصر والشام فهي خير لك من خراسان ، فوجه إلى مصر من أحببت ، وأقم بالشام فتكون بقرب أمير المؤمنين ، فإن أحب لقاءك أتيته من قريب .

فلما أتاه الكتاب غضب وقال : يوليني الشام ومصر ، وخراسان لي ! فكتب الرسول إلى المنصور بذلك . وأقبل أبو مسلم من الجزيرة مجمعا على الخلاف ، وخرج عن وجهه يريد خراسان .

فسار المنصور من الأنبار إلى المدائن ، وكتب إلى أبي مسلم في المسير إليه ، فكتب إليه أبو مسلم وهو بالزاب : إنه لم يبق لأمير المؤمنين ، أكرمه الله ، عدو إلا أمكنه الله منه ، وقد كنا نروي عن ملوك آل ساسان أن أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء ، فنحن نافرون عن قربك ، حريصون على الوفاء لك ما وفيت ، حريون بالسمع والطاعة غير أنها من بعيد حيث يقارنها السلامة ، فإن أرضاك ذلك فإنا كأحسن عبيدك ، وإن أبيت إلا أن تعطي نفسك إرادتها نقضت ما أبرمت من عهدك ضنا بنفسي .

فلما وصل الكتاب إلى المنصور كتب إلى أبي مسلم : قد فهمت كتابك ، وليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغششة ملوكهم الذين يتمنون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم ، فإنما راحتهم في انتشار نظام الجماعة ، فلم سويت نفسك بهم ؟ فأنت في طاعتك ومناصحتك واضطلاعك بما حملت من أعباء هذا الأمر على ما أنت به ، وليس مع الشريطة التي أوجبت منك سمعا ولا طاعة ، وحمل إليك أمير المؤمنين عيسى بن موسى رسالة لتسكن إليها إن أصغيت ، وأسأل الله أن يحول بين الشيطان ونزغاته وبينك ، فإنه لم يجد بابا يفسد به نيتك أوكد عنده وأقرب من الباب الذي فتحه عليك .

[ ص: 58 ] وقيل : بل كتب إليه أبو مسلم : أما بعد فإني اتخذت رجلا إماما ودليلا على ما افترض الله على خلقه ، وكان في محلة العلم نازلا ، وفي قرابته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريبا ، فاستجهلني بالقرآن ، فحرفه عن مواضعه طمعا في قليل قد نعاه الله إلى خلقه ، فكان كالذي دلى بغرور ، وأمرني أن أجرد السيف ، وأرفع الرحمة ، ولا أقبل المعذرة ، ولا أقيل العثرة ، ففعلت توطيدا لسلطانكم حتى عرفكم الله من كان جهلكم ، ثم استنقذني الله بالتوبة ، فإن يعف عني فقدما عرف به ونسب إليه ، وإن يعاقبني فبما قدمت يداي ، وما الله بظلام للعبيد .

وخرج أبو مسلم مراغما مشاقا ، وسار المنصور من الأنبار إلى المدائن ، وأخذ أبو مسلم طريق حلوان ، فقال المنصور لعمه عيسى بن علي ومن حضر من بني هاشم : اكتبوا إلى أبي مسلم . فكتبوا إليه يعظمون أمره ويشكرونه ويسألونه أن يتم على ما كان منه وعليه من الطاعة ، ويحذرونه عاقبة البغي ، ويأمرونه بالرجوع إلى المنصور .

وبعث المنصور الكتاب مع أبي حميد المروروذي وقال له : كلم أبا مسلم بألين ما تكلم به أحدا ، منه ، وأعلمه أني رافعه ، وصانع به ما لم يصنعه به أحد إن هو صلح وراجع ما أحب ، فإن أبى أن يرجع فقل له : يقول لك أمير المؤمنين : لست من العباس وإني بريء من محمد ، إن مضيت مشاقا ولم تأتني إن وكلت أمرك إلى أحد سواي ، وإن لم أل طلبك وقتالك بنفسي ، ولو خضت البحر لخضته ، ولو اقتحمت النار لاقتحمتها حتى أقتلك أو أموت قبل ذلك ، ولا تقولن [ له ] هذا الكلام حتى تيأس من رجوعه ، ولا تطمع منه في خير .

فسار أبو حميد فقدم على أبي مسلم بحلوان ، فدفع إليه الكتاب ، وقال له : إن الناس يبلغونك عن أمير المؤمنين ما لم يقله ، وخلاف ما عليه رأيه منك حسدا وبغيا ، يريدون إزالة النعمة وتغييرها ، فلا تفسد ما كان منك . وكلمه وقال : يا أبا مسلم إنك لم تزل أمير آل محمد يعرفك بذلك الناس ، وما ذخر الله لك من الأجر عنده في ذلك أعظم مما أنت فيه من دنياك ، فلا تحبط أجرك ، ولا يستهوينك الشيطان .

فقال له أبو مسلم : متى كنت تكلمني بهذا الكلام ؟ فقال : إنك دعوتنا إلى هذا الأمر ، وإلى طاعة أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بني العباس ، وأمرتنا بقتال من خالف ذلك ، فدعوتنا من أرضين متفرقة وأسباب مختلفة ، فجمعنا الله على طاعتهم ، وألف ما بين قلوبنا [ ص: 59 ] [ بمحبتهم ] ، وأعزنا بنصرنا لهم ، ولم نلق منهم رجلا إلا بما قذف الله في قلوبنا ، حتى أتيناهم في بلادهم ببصائر نافذة ، وطاعة خالصة ، أفتريد حين بلغنا غاية منانا ، ومنتهى أملنا أن تفسد أمرنا ، وتفرق كلمتنا ؟ ! وقد قلت لنا من خالفكم فاقتلوه ، وإن خالفتكم فاقتلوني ! .

فأقبل أبو مسلم على أبي نصر مالك بن الهيثم ، فقال : أما تسمع ما يقول لي هذا ؟ ما كان بكلامه يا مالك ! قال : لا تسمع قوله ، ولا يهولنك هذا منه ، فلعمري ما هذا كلامه ، ولما بعد هذا أشد منه ، فامض لأمرك ولا ترجع ، فوالله لئن أتيته ليقتلنك ، ولقد وقع في نفسه منك شيء لا يأمنك أبدا .

فقال : قوموا ، فنهضوا ، فأرسل أبو مسلم إلى نيزك ، فعرض عليه الكتب وما قالوا ، فقال : ما أرى أن تأتيه ، وأرى أن تأتي الري فتقيم بها ، [ فيصير ] ما بين خراسان والري لك ، وهم جندك لا يخالفك أحد ، فإن استقام لك استقمت له ، وإن أبى كنت في جندك وكانت خراسان وراءك ، ورأيت رأيك .

فدعا أبا حميد فقال : ارجع إلى صاحبك ، فليس من رأيي أن آتيه . قال : قد عزمت على خلافه ؟ قال : نعم . قال : لا تفعل ! قال : لا أعود إليه أبدا . فلما يئس من رجوعه معه قال له ما أمره به أبو جعفر ، فوجم طويلا ، ثم قال : قم . فكسره ذلك القول ورعبه .

وكان أبو جعفر المنصور قد كتب إلى أبي داود خليفة أبي مسلم بخراسان حين اتهم أبا مسلم : إن لك إمرة خراسان ما بقيت . فكتب أبو داود إلى أبي مسلم : إنا لم نخرج لمعصية خلفاء الله وأهل بيت نبيه - صلى الله عليه وسلم - فلا تخالفن إمامك ، ولا ترجعن إلا بإذنه .

فوافاه كتابه على تلك الحال ، فزاده رعبا وهما ، فأرسل إلى أبي حميد فقال له : إني كنت عازما على المضي إلى خراسان ثم رأيت أن أوجه أبا إسحاق إلى أمير المؤمنين فيأتيني برأيه ، فإنه ممن أثق به . فوجهه ، فلما قدم تلقاه بنو هاشم بكل ما يحب ، وقال له المنصور : اصرفه عن وجهه ولك ولاية خراسان ، وأجازه .

فرجع أبو إسحاق وقال لأبي مسلم : ما أنكرت شيئا ، رأيتهم معظمين لحقك يرون لك ما يرون لأنفسهم . وأشار عليه أن يرجع إلى أمير المؤمنين ، فيعتذر إليه مما كان منه ، فأجمع على ذلك . فقال له نيزك : قد أجمعت على الرجوع ؟ قال : نعم ، وتمثل :

[ ص: 60 ]

ما للرجال مع القضاء محالة ذهب القضاء بحيلة الأقوام



قال : إذا عزمت على هذا فخار الله لك . احفظ عني واحدة ، إذا دخلت عليه فاقتله ثم بايع من شئت ، فإن الناس لا يخالفونك .

وكتب أبو مسلم إلى المنصور يخبره أنه منصرف إليه ، فسار نحوه ، واستخلف أبا نصر على عسكره ، وقال له : أقم حتى يأتيك كتابي ، فإن أتاك مختوما بنصف خاتم فأنا كتبته ، وإن أتاك بالخاتم كله فلم أختمه . وقدم المدائن في ثلاثة آلاف رجل ، وخلف الناس بحلوان .

ولما ورد كتاب أبي مسلم على المنصور قرأه وألقاه إلى أبي أيوب وزيره ، فقرأه وقال له المنصور : والله لئن ملأت عيني منه لأقتلنه .

فخاف أبو أيوب من أصحاب أبي مسلم أن يقتلوا المنصور ويقتلوه معه ، فدعا سلمة بن سعيد بن جابر ، وقال له : هل عندك شكر ؟ فقال : نعم .

قال : إن وليتك ولاية تصيب منها مثل ما يصيب صاحب العراق ، تدخل معك أخي حاتما - وأراد بإدخال أخيه معه أن يطمع ولا ينكر - وتجعل له النصف ؟ قال : نعم . قال له : إن كسكر كالت عام أول كذا وكذا ، ومنها العام أضعاف ذلك ، فإن دفعتها إليك بما كالت أو بالأمانة أصبت ما تضيق به ذرعا .

قال : كيف لي بهذا المال ؟ قال له أبو أيوب : تأتي أبا مسلم فتلقاه وتكلمه أن يجعل هذا فيما يرفع من حوائجه ، فإن أمير المؤمنين يريد أن يوليه إذا قدم ما وراء بابه ويريح نفسه ، قال : فكيف لي أن يأذن لي أمير المؤمنين في لقائه ؟ فاستأذن له أبو أيوب في ذلك ، فأذن له المنصور وأمره أن يبلغ سلامه وشوقه إلى أبي مسلم ، فلقيه سلمة بالطريق وأخبره الخبر وطابت نفسه ، وكان قبل ذلك كئيبا حزينا ، ولم يزل مسرورا حتى قدم .

فلما دنا أبو مسلم من المنصور أمر الناس بتلقيه ، فتلقاه بنو هاشم والناس ، ثم قدم فدخل على المنصور فقبل يده ، وأمره أن ينصرف ويروح نفسه لثلاثة ويدخل الحمام ، فانصرف .

[ ص: 61 ] فلما كان الغد دعا المنصور عثمان بن نهيك وأربعة من الحرس ، منهم : شبيب بن واج ، وأبو حنيفة حرب بن قيس ، فأمرهم بقتل أبي مسلم إذا صفق بيديه ، وتركهم خلف الرواق .

وأرسل إلى أبي مسلم يستدعيه ، وكان عنده عيسى بن موسى يتغدى ، فدخل على المنصور ، فقال له المنصور : أخبرني عن نصلين أصبتهما مع عبد الله بن علي . قال : هذا أحدهما . قال : أرنيه . فانتضاه وناوله إياه ، فوضعه المنصور تحت فراشه .

وأقبل عليه يعاتبه وقال له : أخبرني عن كتابك إلى السفاح تنهاه عن الموات ، أردت أن تعلمنا الدين ؟ قال : ظننت أخذه لا يحل ، فلما أتاني كتابه علمت أنه وأهل بيته معدن العلم .

قال : فأخبرني عن تقدمك إياي بطريق مكة . قال : كرهت اجتماعنا على الماء فيضر ذلك بالناس فتقدمتك للرفق . قال : فقولك لمن أشار عليك بالانصراف إلي بطريق مكة حين أتاك موت أبي العباس إلى أن تقدم فنرى رأينا ، ومضيت فلا أنت أقمت حتى ألحقك ولا أنت رجعت إلي ! قال : منعني من ذلك ما أخبرتك من طلب الرفق بالناس ، وقلت : تقدم الكوفة وليس عليك من خلاف .

قال : فجارية عبد الله أردت أن تتخذها ؟ قال : لا ، ولكني خفت أن تضيع فحملتها في قبة ووكلت بها من يحفظها . قال : فمراغمتك وخروجك إلى خراسان ؟ قال : خفت أن يكون قد دخلك مني شيء فقلت آتي خراسان ، فأكتب إليك بعذري ، فأذهب ما في نفسك .

قال : فالمال الذي جمعته بخراسان ؟ قال : أنفقته بالجند تقوية لهم واستصلاحا . قال : ألست الكاتب إلي تبدأ بنفسك ، وتخطب عمتي آمنة ابنة علي ، وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن عباس ؟ لقد ارتقيت ، لا أم لك ، مرتقى صعبا .

ثم قال : وما الذي دعاك إلى قتل سليمان بن كثير مع أثره في دعوتنا ، وهو أحد نقبائنا قبل أن يدخلك في هذا الأمر ؟ قال : أراد الخلاف وعصاني فقتلته .

فلما طال عتاب المنصور قال : لا يقال هذا لي بعد بلائي وما كان مني .

قال : يابن الخبيثة ! والله لو كانت أمة مكانك لأجزأت ، إنما عملت في دولتنا وبريحنا ، فلو كان ذلك إليك ما قطعت فتيلا .

[ ص: 62 ] فأخذ أبو مسلم بيده يقبلها ويعتذر إليه ، فقال له المنصور : ما رأيت كاليوم ! والله ما زدتني إلا غضبا ! قال أبو مسلم : دع هذا فقد أصبحت ما أخاف [ إلا ] الله تعالى .

فغضب المنصور وشتمه ، وصفق بيده على الأخرى ، فخرج عليه الحرس ، فضربه عثمان بن نهيك فقطع حمائل سيفه ، فقال : استبقني لعدوك يا أمير المؤمنين ! فقال : لا أبقاني الله إذا ، أعدو أعدى لي منك ؟ ! وأخذه الحرس بسيوفهم حتى قتلوه وهو يصيح العفو ، فقال المنصور : يابن اللخناء العفو والسيوف قد اعتورتك ! فقتلوه في شعبان لخمس بقين منه .

فقال المنصور :


زعمت أن الدين لا يقتضى     فاستوف بالكيل أبا مجرم
سقيت كأسا كنت تسقي     بها أمر في الحلق من العلقم

وكان أبو مسلم قد قتل في دولته ستمائة ألف صبرا .

فلما قتل أبو مسلم دخل أبو الجهم على المنصور فرأى أبا مسلم قتيلا ، فقال : ألا أرد الناس ؟ قال : بلى ، فمر بمتاع يحمل إلى رواق آخر .

وخرج أبو الجهم ، فقال : انصرفوا فإن الأمير يريد القائلة عند أمير المؤمنين . ورأوا المتاع ينقل فظنوه صادقا فانصرفوا ، وأمر لهم المنصور بالجوائز ، فأعطى أبا إسحاق مائة ألف .

ودخل عيسى بن موسى على المنصور بعد قتل أبي مسلم فقال : يا أمير المؤمنين أين أبو مسلم ؟ فقال : قد كان هاهنا [ آنفا ] . فقال عيسى : قد عرفت نصيحته وطاعته ورأي الإمام إبراهيم كان فيه .

فقال : يا أحمق ، والله ما أعلم في الأرض عدوا أعدى لك منه ! ها هو ذا في البساط . فقال عيسى : إنا لله وإنا إليه راجعون . وكان لعيسى فيه رأي . [ ص: 63 ] فقال له المنصور : خلع الله قلبك ! وهل كان لكم ملك أو سلطان أو أمر أو نهي مع أبي مسلم ؟

ثم دعا المنصور بجعفر بن حنظلة ، فدخل عليه ، فقال : ما تقول في أمر أبي مسلم ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، إن كنت أخذت من رأسه شعرة فاقتل ثم اقتل .

فقال له المنصور : وفقك الله ! فلما نظر إلى أبي مسلم مقتولا قال : يا أمير المؤمنين ، عد من هذا اليوم لخلافتك .

ثم دعا المنصور بأبي إسحاق ، فلما دخل عليه قال له : أنت المتابع عدو الله على ما أجمع عليه ! وقد كان بلغه أنه أشار عليه بإتيان خراسان ، قال : فكف أبو إسحاق وجعل يلتفت يمينا وشمالا خوفا من أبي مسلم ، فقال له المنصور : تكلم بما أردت فقد قتل الله الفاسق ، وأمر بإخراجه .

فلما رآه أبو إسحاق خر ساجدا لله فأطال ، ورفع رأسه وهو يقول : الحمد لله الذي آمنني بك اليوم ! والله ما أمنته يوما [ واحدا ] ، وما خفته يوما واحدا ، وما جئته يوما قط إلا وقد أوصيت وتكفنت وتحنطت . ثم رفع ثيابه الظاهرة فإذا تحتها ثياب كتان جدد ، وقد تحنط .

فلما رأى أبو جعفر حاله رحمه ، وقال له : استقبل طاعة خليفتك واحمد الله الذي أراحك من الفاسق هذا . ثم قال له : فرق عني هذه الجماعة .

ثم كتب المنصور بعد قتل أبي مسلم إلى أبي نصر مالك بن الهيثم عن لسان أبي مسلم يأمره بحمل ثقله وما خلف عنده ، وأن يقدم ، وختم الكتاب بخاتم أبي مسلم ، فلما رأى الخاتم تاما علم أن أبا مسلم لم يكتب ، فقال : فعلتموها ! وانحدر إلى همذان ، وهو يريد خراسان .

فكتب المنصور لأبي نصر عهده على شهرزور ، وكتب إلى زهير بن التركي ، وهو على همذان : إن مر بك أبو نصر فاحبسه . فسبق الكتاب إلى زهير وأبو نصر بهمذان ، فقال له زهير : قد صنعت لك طعاما فلو أكرمتني بدخول منزلي . فحضر عنده ، فأخذه زهير فحبسه .

وكتب أبو جعفر إلى زهير كتابا يأمره بقتل أبي نصر ، وقدم صاحب العهد على أبي نصر بعهده على شهرزور ، فخلى زهير سبيله لهواه فيه ، فخرج ثم وصل بعد يوم الكتاب إلى زهير بقتل أبي نصر ، فقال : جاءني كتاب بعهده فخليت سبيله .

[ ص: 64 ] وقدم أبو نصر على المنصور فقال له : أشرت على أبي مسلم بالمضي إلى خراسان ؟ قال : نعم ، كانت له عندي أياد فنصحت له ، وإن اصطنعني أمير المؤمنين نصحت له وشكرت . فعفا عنه .

فلما كان يوم الراوندية قام أبو نصر على باب القصر ، وقال : أنا البواب اليوم لا يدخل أحد وأنا حي . فسأل عنه المنصور فأخبر به ، فعلم أنه قد نصح له .

وقيل : إن زهيرا سير أبا نصر إلى المنصور مقيدا ، فمن عليه واستعمله على الموصل .

التالي السابق


الخدمات العلمية