صفحة جزء
فصل فيما حكم الله سبحانه بتحريمه من النساء على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم

حرم الأمهات ، وهن كل من بينك وبينه إيلاد من جهة الأمومة أو الأبوة ، كأمهاته وأمهات آبائه وأجداده من جهة الرجال والنساء وإن علون .

وحرم البنات ، وهن كل من انتسب إليه بإيلاد كبنات صلبه ، وبنات بناته وأبنائهن وإن سفلن .

وحرم الأخوات من كل جهة ، وحرم العمات ، وهن أخوات آبائه وإن علون من كل جهة .

وأما عمة العم ، فإن كان العم لأب فهي عمة أبيه ، وإن كان لأم فعمته أجنبية منه ، فلا تدخل في العمات ، وأما عمة الأم فهي داخلة في عماته ، كما دخلت عمة أبيه في عماته .

وحرم الخالات ، وهن أخوات أمهاته ، وأمهات آبائه وإن علون ، وأما خالة العمة فإن كانت العمة لأب فخالتها أجنبية ، وإن كانت لأم فخالتها حرام ؛ لأنها خالة ، وأما عمة الخالة ، فإن كانت الخالة لأم فعمتها أجنبية ، وإن كانت لأب فعمتها حرام ، لأنها عمة الأم .

وحرم بنات الأخ ، وبنات الأخت ، فيعم الأخ والأخت من كل جهة وبناتهما وإن نزلت درجتهن .

وحرم الأم من الرضاعة ، فيدخل فيه أمهاتها من قبل الآباء والأمهات وإن علون ، وإذا صارت المرضعة أمه صار صاحب اللبن - وهو الزوج أو السيد إن كانت جارية - أباه ، وآباؤه أجداده ، فنبه بالمرضعة صاحبة اللبن التي هي مودع [ ص: 110 ] فيها للأب ، على كونه أبا بطريق الأولى ، لأن اللبن له وبوطئه ثاب ، ولهذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريم لبن الفحل ، فثبت بالنص وإيمائه انتشار حرمة الرضاع إلى أم المرتضع وأبيه من الرضاعة ، وأنه قد صار ابنا لهما ، وصارا أبوين له ، فلزم من ذلك أن يكون إخوتهما وأخواتهما خالات له وعمات ، وأبناؤهما وبناتهما إخوة له وأخوات ، فنبه بقوله : ( وأخواتكم من الرضاعة ) [ النساء : 22 ] على انتشار حرمة الرضاع إلى إخوتهما وأخواتهما ، كما انتشرت منهما إلى أولادهما ، فكما صاروا إخوة وأخوات للمرتضع فأخوالهما وخالاتهما أخوال وخالات له وأعمام وعمات له ، الأول بطريق النص ، والآخر بتنبيهه ، كما أن الانتشار إلى الأم بطريق النص وإلى الأب بطريق تنبيهه .

وهذه طريقة عجيبة مطردة في القرآن ، لا يقع عليها إلا كل غائص على معانيه ووجوه دلالاته ، ومن هنا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) ، ولكن الدلالة دلالتان : خفية وجلية ، فجمعهما للأمة ليتم البيان ويزول الالتباس ، ويقع على الدلالة الجلية الظاهرة من قصر فهمه عن الخفية .

وحرم أمهات النساء ، فدخل في ذلك أم المرأة وإن علت من نسب أو رضاع ، دخل بالمرأة أو لم يدخل بها ، لصدق الاسم على هؤلاء كلهن .

وحرم الربائب اللاتي في حجور الأزواج ، وهن بنات نسائهم المدخول بهن ، فتناول بذلك بناتهن ، وبنات بناتهن ، وبنات أبنائهن ، فإنهن داخلات في اسم الربائب ، وقيد التحريم بقيدين أحدهما : كونهن في حجور الأزواج . والثاني : [ ص: 111 ] الدخول بأمهاتهن . فإذا لم يوجد الدخول لم يثبت التحريم ، وسواء حصلت الفرقة بموت أو طلاق ، هذا مقتضى النص .

وذهب زيد بن ثابت ، ومن وافقه ، وأحمد في رواية عنه : إلى أن موت الأم في تحريم الربيبة كالدخول بها ، لأنه يكمل الصداق ، ويوجب العدة والتوارث ، فصار كالدخول ، والجمهور أبوا ذلك ، وقالوا : الميتة غير مدخول بها فلا تحرم ابنتها ، والله تعالى قيد التحريم بالدخول ، وصرح بنفيه عند عدم الدخول .

وأما كونها في حجره ، فلما كان الغالب ذلك ذكره لا تقييدا للتحريم به ، بل هو بمنزلة قوله : ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ) [ الإسراء : 31 ] ولما كان من شأن بنت المرأة أن تكون عند أمها فهي في حجر الزوج وقوعا وجوازا ، فكأنه قال : اللاتي من شأنهن أن يكن في حجوركم ، ففي ذكر هذا فائدة شريفة ، وهي جواز جعلها في حجره ، وأنه لا يجب عليه إبعادها عنه ، وتجنب مؤاكلتها ، والسفر والخلوة بها ، فأفاد هذا الوصف عدم الامتناع من ذلك .

ولما خفي هذا على بعض أهل الظاهر ، شرط في تحريم الربيبة أن تكون في حجر الزوج ، وقيد تحريمها بالدخول بأمها ، وأطلق تحريم أم المرأة ولم يقيده بالدخول ، فقال جمهور العلماء من الصحابة ومن بعدهم : إن الأم تحرم بمجرد العقد على البنت ، دخل بها أو لم يدخل ، ولا تحرم البنت إلا بالدخول بالأم ، وقالوا : أبهموا ما أبهم الله . وذهبت طائفة إلى أن قوله : ( اللاتي دخلتم بهن ) وصف لنسائكم الأولى والثانية ، وأنه لا تحرم الأم إلا بالدخول بالبنت ، وهذا يرده نظم الكلام وحيلولة المعطوف بين الصفة والموصوف ، وامتناع جعل الصفة للمضاف إليه دون المضاف إلا عند البيان ، فإذا قلت : مررت بغلام زيد العاقل فهو صفة للغلام لا لزيد إلا عند زوال اللبس ، كقولك : مررت بغلام هند الكاتبة ، ويرده أيضا جعله صفة واحدة لموصوفين مختلفي الحكم والتعلق والعامل ، وهذا لا يعرف في اللغة التي نزل بها القرآن .

[ ص: 112 ] وأيضا فإن الموصوف الذي يلي الصفة أولى بها لجواره ، والجار أحق بصقبه ما لم تدع ضرورة إلى نقلها عنه ، أو تخطيها إياه إلى الأبعد .

فإن قيل : فمن أين أدخلتم ربيبته التي هي بنت جاريته التي دخل بها وليست من نسائه ؟ . قلنا : السرية قد تدخل في جملة نسائه ، كما دخلت في قوله : ( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ) [ البقرة : 223 ] ودخلت في قوله : ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) [ البقرة : 187 ] ودخلت في قوله : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ) [ النساء : 22 ] .

فإن قيل : فيلزمكم على هذا إدخالها في قوله : ( وأمهات نسائكم ) [ النساء : 23 ] فتحرم عليه أم جاريته ؟ .

قلنا : نعم ، وكذلك نقول : إذا وطئ أمته حرمت عليه أمها وابنتها .

فإن قيل : فأنتم قد قررتم أنه لا يشترط الدخول بالبنت في تحريم أمها فكيف تشترطونه ها هنا ؟ .

قلنا : لتصير من نسائه ، فإن الزوجة صارت من نسائه بمجرد العقد ، وأما المملوكة فلا تصير من نسائه حتى يطأها ، فإذا وطئها صارت من نسائه فحرمت عليه أمها وابنتها .

فإن قيل : فكيف أدخلتم السرية في نسائه في آية التحريم ولم تدخلوها في نسائه في آية الظهار والإيلاء ؟ .

قيل : السياق والواقع يأبى ذلك ، فإن الظهار كان عندهم طلاقا ، وإنما محله الأزواج لا الإماء ، فنقله الله سبحانه من الطلاق إلى التحريم الذي تزيله الكفارة ، [ ص: 113 ] ونقل حكمه وأبقى محله ، وأما الإيلاء فصريح في أن محله الزوجات لقوله تعالى : ( للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ) [ البقرة : 226 - 227 ] .

وحرم سبحانه حلائل الأبناء ، وهن موطوآت الأبناء بنكاح أو ملك يمين ، فإنها حليلة بمعنى محللة ، ويدخل في ذلك ابن صلبه وابن ابنه وابن ابنته ، ويخرج بذلك ابن التبني ، وهذا التقييد قصد به إخراجه .

وأما حليلة ابنه من الرضاع فإن الأئمة الأربعة ومن قال بقولهم يدخلونها في قوله : ( وحلائل أبنائكم ) [ النساء : 23 ] ولا يخرجونها بقوله : ( الذين من أصلابكم ) [ النساء : 23 ] ويحتجون بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( حرموا من الرضاع ما تحرمون من النسب ) ، قالوا : وهذه الحليلة تحرم إذا كانت لابن النسب ، فتحرم إذا كانت لابن الرضاع . قالوا : والتقييد لإخراج ابن التبني لا غير ، وحرموا من الرضاع بالصهر نظير ما يحرم بالنسب . ونازعهم في ذلك آخرون وقالوا : لا تحرم حليلة ابنه من الرضاعة لأنه ليس من صلبه ، والتقييد كما يخرج حليلة ابن التبني يخرج حليلة ابن الرضاع سواء ولا فرق بينهما . قالوا : وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) فهو من أكبر أدلتنا وعمدتنا في المسألة ، فإن تحريم حلائل الآباء والأبناء إنما هو بالصهر لا بالنسب ، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قصر تحريم الرضاع على نظيره من النسب لا على شقيقه من الصهر فيجب الاقتصار بالتحريم على مورد النص .

قالوا : والتحريم بالرضاع فرع على تحريم النسب لا على تحريم المصاهرة ، فتحريم المصاهرة أصل قائم بذاته والله سبحانه لم ينص في كتابه [ ص: 114 ] على تحريم الرضاع إلا من جهة النسب ، ولم ينبه على التحريم به من جهة الصهر البتة ، لا بنص ولا إيماء ولا إشارة ، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يحرم به ما يحرم من النسب ، وفي ذلك إرشاد وإشارة إلى أنه لا يحرم به ما يحرم بالصهر ، ولولا أنه أراد الاقتصار على ذلك لقال : " حرموا من الرضاع ما يحرم من النسب والصهر " .

قالوا : وأيضا فالرضاع مشبه بالنسب ، ولهذا أخذ منه بعض أحكامه وهو الحرمة والمحرمية فقط دون التوارث ، والإنفاق وسائر أحكام النسب فهو نسب ضعيف ، فأخذ بحسب ضعفه بعض أحكام النسب ، ولم يقو على سائر أحكام النسب ، وهو ألصق به من المصاهرة فكيف يقوى على أخذ أحكام المصاهرة مع قصوره عن أحكام مشبهة وشقيقة ؟! .

وأما المصاهرة والرضاع فإنه لا نسب بينهما ولا شبهة نسب ولا بعضية ولا اتصال . قالوا : ولو كان تحريم الصهرية ثابتا لبينه الله ورسوله بيانا شافيا يقيم الحجة ويقطع العذر ، فمن الله البيان ، وعلى رسوله البلاغ ، وعلينا التسليم والانقياد ، فهذا منتهى النظر في هذه المسألة ، فمن ظفر فيها بحجة فليرشد إليها وليدل عليها ، فإنا لها منقادون ، وبها معتصمون ، والله الموفق للصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية