صفحة جزء
[ ص: 153 ] فصل وفي القصة من الفقه تخيير الأمة المزوجة إذا أعتقت وزوجها عبد ، وقد اختلفت الرواية في زوج بريرة ، هل كان عبدا أو حرا ؟ .

فقال القاسم عن عائشة رضي الله عنها : ( كان عبدا ولو كان حرا لم يخيرها ) وقال عروة عنها : كان حرا . وقال ابن عباس : ( كان عبدا أسود يقال له مغيث ، عبدا لبني فلان ، كأني أنظر إليه يطوف وراءها في سكك المدينة ) وكل هذا في الصحيح .

وفي " سنن أبي داود " عن عروة عن عائشة كان عبدا لآل أبي أحمد فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها : ( إن قربك فلا خيار لك ) .

وفي " مسند أحمد " عن عائشة رضي الله عنها : أن بريرة كانت تحت عبد فلما أعتقتها ، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اختاري فإن شئت أن تمكثي تحت هذا العبد وإن شئت أن تفارقيه ) .

وقد روي في " الصحيح " : أنه كان حرا .

وأصح الروايات وأكثرها : أنه كان عبدا وهذا الخبر رواه عن عائشة رضي الله عنها ثلاثة الأسود وعروة والقاسم ، أما الأسود فلم يختلف عنه عن عائشة أنه كان حرا ، وأما عروة فعنه روايتان صحيحتان متعارضتان : إحداهما : أنه كان حرا ، والثانية : أنه كان عبدا ، وأما عبد الرحمن بن القاسم فعنه روايتان صحيحتان : إحداهما : أنه كان حرا ، والثانية : الشك . قال داود بن مقاتل ولم تختلف الرواية عن ابن عباس أنه كان عبدا .

واتفق الفقهاء على تخيير الأمة إذا أعتقت وزوجها عبد ، واختلفوا إذا كان حرا فقال الشافعي ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه : لا تخيير . وقال أبو [ ص: 154 ] حنيفة وأحمد في الرواية الثانية تخير . وليست الروايتان مبنيتين على كون زوجها عبدا أو حرا ، بل على تحقيق المناط في إثبات الخيار لها ، وفيه ثلاثة مآخذ للفقهاء :

أحدها : زوال الكفاءة وهو المعبر عنه بقولهم كملت تحت ناقص .

الثاني : أن عتقها أوجب للزوج ملك طلقة ثالثة عليها لم تكن مملوكة له بالعقد ، وهذا مأخذ أصحاب أبي حنيفة ، وبنوا على أصلهم أن الطلاق معتبر بالنساء لا بالرجال .

الثالث : ملكها نفسها ، ونحن نبين ما في هذه .

المأخذ الأول : وهو كمالها تحت ناقص ، فهذا يرجع إلى أن الكفاءة معتبرة في الدوام كما هي معتبرة في الابتداء ، فإذا زالت خيرت المرأة ، كما تخير إذا بان الزوج غير كفء لها . وهذا ضعيف من وجهين :

أحدهما : أن شروط النكاح لا يعتبر دوامها واستمرارها ، وكذلك توابعه المقارنة لعقده لا يشترط أن تكون توابع في الدوام ، فإن رضى الزوجة غير المجبرة شرط في الابتداء دون الدوام ، وكذلك الولي والشاهدان ، وكذلك مانع الإحرام والعدة والزنى عند من يمنع نكاح الزانية ، إنما يمنع ابتداء العقد دون استدامته ، فلا يلزم من اشتراط الكفاءة ابتداء اشتراط استمرارها ودوامها .

الثاني : أنه لو زالت الكفاءة في أثناء النكاح بفسق الزوج ، أو حدوث عيب موجب للفسخ ، لم يثبت الخيار على ظاهر المذهب ، وهو اختيار قدماء الأصحاب ومذهب مالك .

وأثبت القاضي الخيار بالعيب الحادث ويلزمه إثباته بحدوث فسق الزوج ، وقال الشافعي : إن حدث بالزوج ثبت الخيار ، وإن حدث بالزوجة فعلى قولين .

وأما المأخذ الثاني : وهو أن عتقها أوجب للزوج عليها ملك طلقة ثالثة فمأخذ ضعيف جدا ، فأي مناسبة بين ثبوت طلقة ثالثة ، وبين ثبوت الخيار لها ؟ وهل نصب الشارع ملك الطلقة الثالثة سببا لملك الفسخ ، وما يتوهم - من أنها كانت تبين منه باثنتين فصارت لا تبين إلا بثلاث ، وهو زيادة إمساك وحبس لم [ ص: 155 ] يقتضه العقد - فاسد ، فإنه يملك ألا يفارقها البتة ، ويمسكها حتى يفرق الموت بينهما ، والنكاح عقد على مدة العمر ، فهو يملك استدامة إمساكها ، وعتقها لا يسلبه هذا الملك فكيف يسلبه إياه ملكه عليها طلقة ثالثة ، وهذا لو كان الطلاق معتبرا بالنساء ، فكيف والصحيح أنه معتبر بمن هو بيده وإليه ومشروع في جانبه .

وأما المأخذ الثالث : وهو ملكها نفسها فهو أرجح المآخذ وأقربها إلى أصول الشرع ، وأبعدها من التناقض ، وسر هذا المأخذ أن السيد عقد عليها بحكم الملك حيث كان مالكا لرقبتها ومنافعها ، والعتق يقتضي تمليك الرقبة والمنافع للمعتق ، وهذا مقصود العتق وحكمته فإذا ملكت رقبتها ملكت بضعها ومنافعها ومن جملتها منافع البضع ، فلا يملك عليها إلا باختيارها ، فخيرها الشارع بين أن تقيم مع زوجها ، وبين أن تفسخ نكاحه ، إذ قد ملكت منافع بضعها ، وقد جاء في بعض طرق حديث بريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال لها : ( ملكت نفسك فاختاري ) .

فإن قيل : هذا ينتقض بما لو زوجها ثم باعها ، فإن المشتري قد ملك رقبتها وبضعها ومنافعه ، ولا تسلطونه على فسخ النكاح . قلنا : لا يرد هذا نقضا ، فإن البائع نقل إلى المشتري ما كان مملوكا له فصار المشتري خليفته ، وهو لما زوجها ، أخرج منفعة البضع عن ملكه إلى الزوج ، ثم نقلها إلى المشتري مسلوبة منفعة البضع ، فصار كما لو آجر عبده مدة ثم باعه .

فإن قيل : فهب أن هذا يستقيم لكم فيما إذا باعها ، فهلا قلتم ذلك إذا أعتقها وأنها ملكت نفسها مسلوبة منفعة البضع ، كما لو آجرها ثم أعتقها ، ولهذا ينتقض عليكم هذا المأخذ ؟ .

قيل الفرق بينهما : أن العتق في تمليك العتيق رقبته ومنافعه أقوى من البيع ، ولهذا ينفذ فيما لم يعتقه ويسري في حصة الشريك ، بخلاف البيع ، فالعتق إسقاط ما كان السيد يملكه من عتيقه ، وجعله له محررا ، وذلك يقتضي إسقاط ملك نفسه ومنافعها كلها .

وإذا كان العتق يسري في ملك الغير المحض الذي لا [ ص: 156 ] حق له فيه البتة فكيف لا يسري إلى ملكه الذي تعلق به حق الزوج ، فإذا سرى إلى نصيب الشريك الذي حق للمعتق فيه ، فسريانه إلى ملك الذي يتعلق به حق الزوج أولى وأحرى ، فهذا محض العدل والقياس الصحيح .

فإن قيل : فهذا فيه إبطال حق الزوج من هذه المنفعة بخلاف الشريك فإنه يرجع إلى القيمة .

قيل الزوج قد استوفى المنفعة بالوطء ، فطريان ما يزيل دوامها لا يسقط له حقا ، كما لو طرأ ما يفسده أو يفسخه برضاع أو حدوث عيب أو زوال كفاءة عند من يفسخ به .

فإن قيل فما تقولون فيما رواه النسائي ، من حديث ابن موهب عن القاسم بن محمد ، قال : كان لعائشة رضي الله عنها غلام وجارية قالت : فأردت أن أعتقهما ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( ابدئي بالغلام قبل الجارية ) ولولا أن التخيير يمنع إذا كان الزوج حرا لم يكن للبداءة بعتق الغلام فائدة ، فإذا بدأت به عتقت تحت حر فلا يكون لها اختيار .

وفي " سنن النسائي " أيضا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أيما أمة كانت تحت عبد فعتقت فهي بالخيار ما لم يطأها زوجها ) .

قيل : أما الحديث الأول فقال أبو جعفر العقيلي وقد رواه : هذا خبر لا يعرف إلا بعبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب وهو ضعيف .

وقال ابن حزم : هو [ ص: 157 ] خبر لا يصح . ثم لما صح لم يكن فيه حجة ؛ لأنه ليس فيه أنهما كانا زوجين ، بل قال : كان لها عبد وجارية . ثم لو كانا زوجين لم يكن في أمرها لها بعتق العبد أولا ما يسقط خيار المعتقة تحت الحر ، وليس في الخبر أنه أمرها بالابتداء بالزوج لهذا المعنى ، بل الظاهر أنه أمرها بأن تبتدئ بالذكر لفضل عتقه على الأنثى ، وأن عتق أنثيين يقوم مقام عتق ذكر ، كما في الحديث الصحيح مبينا .

وأما الحديث الثاني : فضعف لأنه من رواية الفضل بن حسن بن عمرو بن أمية الضمري وهو مجهول . فإذا تقرر هذا وظهر حكم الشرع في إثبات الخيار لها ، فقد روى الإمام أحمد بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا أعتقت الأمة فهي بالخيار ما لم يطأها إن شاءت فارقته وإن وطئها فلا خيار لها ولا تستطيع فراقه ) ويستفاد من هذا قضيتان :

إحداهما : أن خيارها على التراخي ما لم تمكنه من وطئها وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد . وللشافعي ثلاثة أقوال : هذا أحدها . والثاني : أنه على الفور والثالث : أنه إلى ثلاثة أيام .

الثانية : أنها إذا مكنته من نفسها فوطئها سقط خيارها وهذا إذا علمت بالعتق وثبوت الخيار به ، فلو جهلتهما لم يسقط خيارها بالتمكين من الوطء .

وعن أحمد رواية ثانية : أنها لا تعذر بجهلها بملك الفسخ ، بل إذا علمت بالعتق ومكنته من وطئها سقط خيارها ولو لم تعلم أن لها الفسخ ، والرواية الأولى أصح فإن عتق الزوج قبل أن تختار - وقلنا : إنه لا خيار للمعتقة تحت حر - بطل خيارها لمساواة الزوج لها ، وحصول الكفاءة قبل الفسخ .

قال الشافعي في أحد قوليه - وليس هو المنصور عند أصحابه - : لها الفسخ لتقدم ملك الخيار على العتق ، فلا يبطله ، والأول أقيس لزوال سبب الفسخ بالعتق ، وكما لو زال العيب [ ص: 158 ] في البيع والنكاح قبل الفسخ به ، وكما لو زال الإعسار في زمن ملك الزوجة الفسخ به . وإذا قلنا : العلة ملكها نفسها فلا أثر لذلك ، فإن طلقها طلاقا رجعيا فعتقت في عدتها فاختارت الفسخ بطلت الرجعة ، وإن اختارت المقام معه صح وسقط اختيارها للفسخ ؛ لأن الرجعية كالزوجة .

وقال الشافعي وبعض أصحاب أحمد : لا يسقط خيارها إذا رضيت بالمقام دون الرجعة ، ولها أن تختار نفسها بعد الارتجاع ، ولا يصح اختيارها في زمن الطلاق ، فإن الاختيار في زمن هي فيه صائرة إلى بينونة ممتنع .

فإذا راجعها صح حينئذ أن تختاره وتقيم معه ؛ لأنها صارت زوجة وعمل الاختيار عمله ، وترتب أثره عليه .

ونظير هذا إذا ارتد زوج الأمة بعد الدخول ، ثم عتقت في زمن الردة ، فعلى القول الأول لها الخيار قبل إسلامه ، فإن اختارته ثم أسلم سقط ملكها للفسخ ، وعلى قول الشافعي : لا يصح لها خيار قبل إسلامه ؛ لأن العقد صائر إلى البطلان . فإذا أسلم صح خيارها .

فإن قيل : فما تقولون إذا طلقها قبل أن تفسخ هل يقع الطلاق أم لا ؟ .

قيل : نعم يقع لأنها زوجة ، وقال بعض أصحاب أحمد وغيرهم : يوقف الطلاق ، فإن فسخت تبينا أنه لم يقع ، وإن اختارت زوجها تبينا وقوعه . فإن قيل فما حكم المهر إذا اختارت الفسخ ؟ .

قيل : إما أن تفسخ قبل الدخول ، أو بعده . فإن فسخت بعده لم يسقط المهر وهو لسيدها سواء فسخت أو أقامت ، وإن فسخت قبله ففيه قولان هما روايتان عن أحمد : إحداهما : لا مهر لأن الفرقة من جهتها ، والثانية : يجب نصفه ويكون لسيدها لا لها .

فإن قيل فما تقولون في المعتق نصفها هل لها خيار ؟ قيل فيها قولان وهما روايتان عن أحمد فإن قلنا : لا خيار لها كزوج مدبرة له لا يملك غيرها وقيمتها مائة ، فعقد على مائتين مهرا ، ثم مات عتقت ولم تملك الفسخ قبل [ ص: 159 ] الدخول لأنها لو ملكت ، سقط المهر أو انتصف ، فلم تخرج من الثلث فيرق بعضها ، فيمتنع الفسخ قبل الدخول بخلاف ما إذا لم تملكه ، فإنها تخرج من الثلث فيعتق جميعها .

التالي السابق


الخدمات العلمية